الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على جميع الأنبياء والمرسلين.
وبعد:
رمضان مضمار الصالحين، وميدان المتسابقين، فأكرم به من شهر فضيل!
فيه (كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمُعْتِقُهَا أو مُوبِقُهَا).
وبين بدايةٍ مدبرة ونهايةِ مقبلة، تتفاوت الهمم بين غوايةٍ وهدايةٍ (إن سعيكم لشتى).
ومن كانت بدايته متدفقة، كانت نهايته مشرقة، وبجزيل الأجر مورقة.
وبيد يدي الختام أربع وقفات إيمانية:
وقفة ألم - وقفة ندم - وقفة أمل - وقفة عمل.
وقفة ألم:
كل رحيل يترك في النفس ألما؛ وكل فراق يُبقي في القلب أثرًا، (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ).
ألمٌ لفراق شهر الخير والبركة والهدى؛ إذ أقبل العبد فيه على ما كان يترك، ونأى بنفسه بعيدا عما عليه تعوَّد.
ألم على عدم القدرة على فعل طاعة مرغوبة، والتزلف بقربى مطلوبة، مع صحة نية، وصدق طوية.
كألم المريض الذي لا يقوى على الصيام ويتمناه صدقًا.
كألم القعيد الذي لا يستطيع القيام ويرجوه حقًّا.
كألم الفقير الذي لا يملك ما يتصدق به ويحبه رفقًا.
كألم الضعيف الذي يرى جبال الظلم تتراكم على المستضعفين، أو أمواج الدمار تتلاطم على المنكوبين، فتجثم على صدره الهموم، وتعصف به رياح الشجون، ولا يجد سلاحًا إلا الدعاء.
(وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ).
وقفة ندم:
الحزن والندم على فوات رزق أو شيء من أمور الدينا فغير محمود (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ).
بينما أشد الندم وأعظمه يكون على فوات مجالسة القرآن، وترك مؤانسة الذكر، والبعد عن مرافقة الاستغفار، والتقاعس عن صلاة التراويح.
ندم لا ينفع صاحبه، حين يعضُّ الأنامل، ويقرع الأسنان (يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا)، ولات ساعة مندم.
وندم للاستزادة من الخير، واستثمار جميع أنفاس العمر، تالله ذلك الندم المحمود (ليس يَتَحَسَّرُ أهلُ الجنَّةِ على شيءٍ إلَّا على ساعةٍ مرَّتْ بهم لم يذكروا اللهَ عزَّ وجلَّ فيها)، وهم من خيراتها يتنعمون، وفي ربوع رياضها يتمتعون.
وشتان بين مسرات طاعة وحسرات معصية، فما أبعد المسافة بينهما! وما أعظم الشُّقة!
(يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنْسانُ وأنّى لَهُ الذِكْرى يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي).
وما أنا وأنت وجميع العالمين إلا في بحار نعم الله علينا نسبح، فاحفظ النعمة، واشكر المنعم، فالشكر سبيل الزيادة (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ).
وقفة أمل:
يمضي الشهر ويتعلق القلب بين خوف رد، وخشية عذاب، ورجاء قبول (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا).
وفي طيات الأمل علامة القبول، وهي ديمومة الطاعة كل ساعة (قُلْ: آمَنْتُ باللَّهِ، ثم اسْتَقِمْ).
والعبد (يسير إلى الله بين مشاهدة المنة ومطالعة عيب النفس والعمل).
(ومنشأ هذين الأصلين عن ذينك الأصلين المُتَقدمين، وهما مشاهدة المِنّة التي تورث المحبّة، ومطالعة عيب النفس والعمل التي تورث الذُّل التام).
والكيس الفطن - بتوفيق ربه - هو الذي يرافق الرجاء والأمل جميع سيره إلى ربه، بذلك تسعد روحه، ويضاعف الخطا طموحُه.
وإن تراكم عليه النقص، وتزاحم فيه العجز، يحملْ لواء الاستعانة بربه بكل بأس، ويخلعْ عن قلبه ثوب اليأس (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).
واحذر على نفسك الكبر، فإنه داء عضال، ومرض قتال، وأول عصيان لربنا الرحمن (أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ).
واذبح الاغترار بلطائف الذل لله والانكسار، فإذا وُفقت لطاعة أو رُزقت نعمة أو رُفعت عنك محنة فلا تقل: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي) فيحل عليك السخط، وينزل بك الخسف.
واملأ طاعتك بقناطير الخشوع تُرفع، وزيِّن إخلاصك برداء الخضوع يُسمع، واحمل دعاءك على أجنحة التضرع يسطع.
(فإنَّه لَنْ يُدْخِلَ الجَنَّةَ أحَدًا عَمَلُهُ قالوا: ولا أنْتَ؟ يا رَسولَ اللهِ، قالَ: ولا أنا، إلَّا أنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ منه برَحْمَةٍ)، وهو مَن هو صاحب القدر عند الحق، والفضل عند الخلق.
وقفة عمل:
ينقضي الشهر ولا ينقطع العمل، فلا تكن حالك كحال امرأة حمقاء خرقاء، قص القرآن خبرها، وساق للموعظة قبح صنيعها؛ إذ نقضت نسجها، وضيعت جهدها، وأهدرت وقتها، فما أقبحه من صنيع سوء! (ولا تَكُونُوا كالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أنْكاثًا تَتَّخِذُونَ أيْمانَكم دَخَلًا بَيْنَكم أنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هي أرْبى مِن أُمَّةٍ إنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ ولَيُبَيِّنَنَّ لَكم يَوْمَ القِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ).
فمن الناس من لا يعرف ربه إلا وقت الحاجة، ثم إذا ما تحقق له المطلوب أعرض وتولى (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ).
وتتوالى نداءات الخير؛ لتشحذ الهمم، وتستنهض العزائم (وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)، (سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ).
ثم يأتي التصنيف القرآني الحكيم؛ ليبحث الإنسان عن خطرات نفسه، ويتلمس فيه خطوات حسه (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ).
(خذوا من الأعمال ما تُطيقون، فإن الله لا يَمَلُّ حتى تَمَلُّوا، وإن أحبَّ الأعمالِ إلى الله ما دام وإن قَلَّ).
واعلم – حفظك الله – أن (لِكُلِّ عملٍ شِرَّةً، ولِكُلِّ شِرَّةٍ فترةٌ، فمنْ كان فترتُهُ إلى سنتي فقدِ اهتدى، ومَنْ كانَتْ إِلى غيرِ ذَلِكَ فقدْ هَلَكَ)، فاستثمر لحظات نشاط، واجعل لنفسك حدًّا أدنى من الطاعة وقت الفتور به النجاة، ودونه الهلاك.
ويطرق أبواب الصالحين (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ).
(وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ).
ولا يستوي مجتهد وكسول.
ولا سابق بالخيرات بمن استبد به الخمول.
(أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ).
و(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).
بقلم:
أشرف السيد الصباغ
عناوين مشابه
متعلق بي
احدث مقالات الكاتب
إضافة تعليق - (( user.name )) - خروج
ادارة موقع الشعر (( comment.message.user.name )) (( comment.message.user.name ))
(( comment.message.text ))
لا يوجد تعليقات.