حاوره : صالح عبده إسماعيل الآنسي
نفحة طيبة من نفحات فلسطين ظل أريجها العذب يهب علينا على امتداد أربعة عقود مضت ولا تزال ، وتجربة متقدمة وأصيلة من تجارب الشعر العربي المعاصر، عميقة الجذور والهوى والقيمة..تجربة أحد أبرز الشعراء العرب الفلسطينيين ، والذي يعتبر من شعراء الصف الأول بامتياز ، ومن شعراء الطليعة الذين عاشوا نكبة فلسطين بعام 1948م بكل تفاصيلها وحيثياتها وملابساتها التاريخية التي تركت أثرها البالغ عليهم وعلى شعرهم ، شاعر متمكن من أدواته ، مطبوع على قول الشعر ، لا يتلكأ ولا يتعثر ، وذو تجربة أدبية طويلة ناضجة ، وهو مع شاعريته الأصيلة المتدفقة قصاص وناقد أيضاً ، بدأ بنشر قصائده في مطلع سبعينات القرن الماضي في كثير من المجلات ، وأصدر أكثر من عشرين ديواناً وثلاث مجموعات قصصية ، وله كتابات نقدية نشرت في العديد من الصحف والمجلات العربية ، وبالرغم من ما هو فيه من الرسوخ والإنتشار بنتاجه الأدبي المتنوع وشعره المتميز الأصيل والغزير..الذي شهد له بعلو قامته فيه الكثير من النقاد وتناولته بالبحث والدراسة-حتى الآن- عشر رسائل أكاديمية ما بين ماجستير ودكتوراه وليسانس ؛ إلا أننا نجده-وبكل تواضع-يقول لنا بمناسبة صدور مجلدي أعماله الشعرية الكاملة عن أكاديمية الإبداع المنبثقة من مؤسسة احياء التراث وتنمية الإبداع : "من القلب شكراً أيها الأحبة..لولا محبتكم وتشجيعكم ؛ ما كان لهذه الأعمال أن ترى النور" فنتعلم منه بذلك أبلغ الدروس في التواضع وعدم الإكتفاء عن معية النقد والتوجيه والمشورة وتشجيع الغير ، وقبل هذا وذاك فمن يقترب أكثر من إنسان هذا الشاعر الكبير ذو القامة الأدبية السامقة والعمر المتقدم يجده غاية في اللطف ولين الجانب ورحابة الصدر .. وهي سمات ندر أن تجتمع في شخص أي شاعر كبير آخر من شعراء الأمة المعاصرين كما اجتمعت في شخصه ، إنه كما أُطلق عليه {شاعر القضيتين} الإسلامية والفلسطينية..الشاعر الفلسطيني الكبير :
محمود حسين مفلح
أمد الله لنا في عمره وعطائه ، والذي بالرغم من كل ما سبق نجده أيضاً يقول عن نفسه : "إذا كان لكل شاعر طقسه في الكتابة ؛ فإنني أكتب عند الفجر وبالقلم الرصاص وقربي الممحاة وأُسَوِّدُ النص ثلاث مرات على الأقل ، هذا جزء من المعاناة مع القصيدة التي يقرأها القارئ في خمس دقائق " ولقد كان لي شرف الإسهام في تسليط الضوء على هذا العملاق وعلى ثراء ونضج تجربته الشعرية الطويلة ونتاجه وأعماله عبر إجراء هذا الحوار المثمر والبناء الذي كان لي معه :
*من الصعب على أي شاعر أن يتكلم عن بيئته التي نشأ فيها ، وأنا نشأت في قرية ساحرة الجمال على ضفاف بحيرة طبرية ، صحيح أني لا أذكر معالمها تماماً لأنني غادرتها وأنا في الخامسة من عمري مهاجراً إلى سوريا يوم النكبة المشئوم ، ولكن {سمخ} وبحرية طبريا تمد لي دائماً بالنسخ الشعري وترافقني أينما اتجهت وحيثما حللت ، والقارئ لشعري يكتشف عمق ارتباطي بقريتي ، تلك القرية التي أنجبت أكبر عدد من شعراء فلسطين المرموقين ، يضيق المجال عن ذكرهم وسرد سيرتهم الإبداعية.
أنا في مصر أستريحُ قليلًا
ثمَّ أمضي حيث الرحيلُ يشاءُ
لست أدري غداً بأيِّ بلادٍ
سوف أُلقي عصايَ يا أبناءُ ؟!
منذ صليتُ ركعتين بداري
ثم ودعتها .. أطلَّ الشقاءُ
كان فيها يحلو الدعاءُ ولما
غبتُ عنها ؛ ما عاد يحلو الدعاءُ
لا ترابي هنا ؛ فأبذر قمحي
لا سمائي التي أراها السماءُ
كلما أبصرت عيوني بحراً
صدَّ عني الشراعُ والميناءُ
خطواتي على الطريقِ حيارى
عندما قيلَ إنكم غرباءُ !!
مع اعتزازي بكثير من الأصدقاء المصريين الذين غمروني بلطفهم ونبلهم وبمصر الكنانة حكومة وشعباً .
هجرنا للشمالِ فعنفونا
ورُحنا للجنوبِ فحاصرونا
رجونا أن تكونَ لهم قلوبٌ
ترقُ وأن نرى فيهم معينا
وقلنا نحنُ إخوتكم وجئنا
من الوطنِ الذبيحِ فأنقذونا
قرأنا سورةً عزت علينا
فهاجرنا وصرنا لاجئينا
فلا الأيتامُ تقرعُكم دموعاً
ولا الآهاتُ تطلقكم أنينا
وقد غلقتمو الابوابَ غلقاً
كما فعلت قريظة والحصونا
وأنتم تملكونَ البحرَ رهواً
وفوقَ البحرِ تجرونَ السفينا
وقد وسِعَت بلادُكمو خليطاً
من الأغراب كيفَ تضيقُ فينا !؟
فهل صليتمو خمساً وصمتم
وهل تتلونَ قرآناً مُبينا !؟
وهل حجَّ الولاةُ كما حججنا
وهل ساروا لمكة مُحرمينا !؟
وقلتم يا رسولَ الله كنا
على عهدِ الأخوةِ ثابتينا
فرشنا الأرض تحتهمو وروداً
وأمطرنا عليهم ياسمينا
ولما أن أفقتُ ؛ سمعتُ صوتاً
يقولُ لهم كأنَّ بهِ جنونا
فكيفَ ترومُ من قومٍ إخاءً
وقد رنَّ الغرورُ بهم رنينا !!
ولا تكاد تقرأ قصيدة من قصائدي إلا وأطَلَّ من خلال سطورها الغضب الفلسطيني من الأنظمة والإحتجاج الصارخ على من أساءوا معاملتنا وحرمونا حتى من قبورٍ على أرضهم ، وهناك استثناءات بطبيعة الحال وإن كانت قليلة جداً.
وقد أطلق عليَّ بعض النقاد بأنني شاعر القضيتين الإسلامية والفلسطينية ، وأن فلسطين تأكل معي وتشرب معي وتنام معي ، وأحملها على ظهري من مطار إلى مطار ومن ميناء إلى ميناء ، وأعتقد أني سأموت واسم فلسطين على شفاهي.
وكثير من النقاد يعيبون عليَّ أنني لا أستطيع أن أتخلص من جاذبيتها ، وأنا راضٍ بذلك ومقتنع به حتى ولو كان على حساب موضوعات أخرى وأهمها الموضوعات العاطفية التي اتهمت بالتقصير فيها ، وأنا أعترف بذلك الآن..فلا وقت لديَّ للغزل ، أما ما ذكرته من قول بعض النقاد عن الشعر عندي والمسار الذي التزمت المضي عليه فيه..فقد بينت ذلك في كثير من قصائدي من مثل قولي في نص قصيدة بعنوان {رأي} :
أنا ما كتبتُ الشعرَ كي أتشدقا
أو أنني جاريتُ فيهِ لأسبقا
أنا لا أحُبُّ الشعرَ بوقَ عشيرةٍ
أنا لا أحُبُّ الشاعرَ المُتخندقا
أنا لا أطيقُ الشعرَ أقرأُ ساعةً
وأعودُ من عُسرِ القراءةِ مُرهقا
أحببتُ شعراً كالطفولةِ صافياً
أو بلبلاً .. أو جدولاً مترقرقا
يدنو من القلبِ الكسيرِ برقةٍ
ويُذيبُ عنهُ الحزنَ حتى يخفِقا
يأتيهِ عندَ الفجرِ مثلَ ملاكهِ
يهديهِ قبلةَ عاشقينِ وزنبقا
وإذا شممتُ من القصيدةِ عجمة
مزقتها من قبل أن أتمزقا !
ما أسوأ الشعراء حينَ تراهمو
حولَ الموائدِ راقصاً ومُصفقا
كم سالَ من ولَهٍ لُعابُ قصيدتي؟!
لما رأى خمراً بثغرك عُتِّقَا
شيخوخةُ الشعراءِ تبدأ عندما
لا يكتبُ الشعراءُ شعراً مُقلِقا
وكتبت النقد الأدبي لأكثر من عشر سنوات عندما كنت بالسعودية أعمل موجهاً تربوياً لمادة اللغة العربية ، وقد تناولت كثيراً من أدباء السعودية بالدراسة والتعريف ، ولكنني أعترف أنني لا أملِك مصطلحاً منهجياً في النقد وهي أقرب إلى النقد الإنطباعي الذاتي ، ولي كتاب كبير مخطوط الصفحات : {دراسات في الشعر السعودي المعاصر} لم يطبع حتى الآن ، وكتبت كذلك أناشيد للأطفال في مجموعتين لقيتا رواجاً طيباً ، وأُنشِدَت الكثير من مقطوعاتها عبر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة ودون علم مني في كثيرٍ من الأحيان ، تماماً..كالدراسات التي دارت حول إنتاجي الشعري للحصول على درجات علمية كالماجستير والدكتوراه وبدون علمي كذلك إلا بعد إنجاز العمل وحصول الدارس على الدرجة العلمية ، وكتبت أيضاً مقالات متنوعة الأغراض حول الشعر ومشكلاته والشعراء وهموهم لقيت بعض الصدى من المهتمين بهذا الشأن ، وهي خلاصة تجربة امتدت أكثر من أربعين عاماً في الكتابة الشعرية.
إذا لم يكن في الشعرِ هندٌ وزينبُ
فقل لي إذن كيفَ القصائدُ تكتبُ!؟
تظلُ القوافي دونهُنَّ فقيرة
فلا نكهةٌ فيهن والشعرُ مُذنِبُ
وما قيمةُ الإنسانِ من غيرِ مرأةٍ
تمُدُ لهُ كفَ الحنانِ..فيخصبُ
إذا قال : "آخٍ" أسرعت بدوائها
وأنجعُ من كلِّ الدواءِ التحببُ
وتوقِظُ أنفاسَ الرياحينِ عندهُ
وأنفاسها في جلدهِ تتسرَّبُ
ترفُ عليهِ كلَّ يومٍ غمامةً
وتمنحهُ نبَع الشفاهِ فيشربُ
وتنعشهُ فجراً بفنجانِ بوحِها
ومن كفها الفنجانُ أحلى وأطيبُ
يغارُ من الفنجانِ إن مسَّ ثغرَها
فينهرهُ حيناً ... وحيناً يؤنِبُ
هيَ المرأةُ الأُنثى فسبحانِ ربنا
أيجري بلا أنثى على البحرِ مركِبُ !؟
ولكن المرأة بشكل أو بآخر مبثوثة في أكثر ما كتبت..تلميحاً لا تصريحاً وعَرَضَاً لا جوهراً .
عناوين مشابه
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
متعلق بي
إضافة تعليق - (( user.name )) - خروج
ادارة موقع الشعر (( comment.message.user.name )) (( comment.message.user.name ))
(( comment.message.text ))
لا يوجد تعليقات.