ما زالت مغروسة في قعر وحدتها ، وقد ألصقت وجهها بزجاج نافذتها الباردة منتظرةمجيء أختها البعيدة ، والتيأبرقت إليها منذ أيام أن تأتي . فالمرض ينسل من عروقهاالمرهقة ، وروحها تئن تحت أسياج الظلام في أزقّة ضيّقة والسنوات سلخت كل آثارقرابتها ،حتى الشمس من خلال نافذتها تراها مجعّدة في أشعتها، وقد تكدّست فوق ظلالها الباهتة في برك النور المتجمّدة ، ظل زوجها الراحل ينتزعها من وحدة الزمن ،وعائلتها الصغيرة اندثرت ، لم يبقَ لها سوى الأخت الوحيدة المتزوجة في بلد آخر، يتراءى الظل ، يقترب منها ، ووهج حنانه يلفحها ، وذراعاه تسكبان الدفء على صدرها،لقداستطاع زوجها أن يغني لها كل أغاني الطيور ، وأن يلملم غربة روحها ، لأنهاحُرِمَت من الإنجاب وعوّضها عن كل حنان الأرض والأهل والأبناءبعد ربع قرن وأكثر ،لحظة مشحونة ابتلعت لها الحنان . عاصفة غبار نتن هبّت علىحياتها ، واقتلعت الجذر الحامي . ولقد بعثرت على قبره آخر زهورها ،ومنذ ذلك اليوم ونحيب الذكريات المؤلمة يلاحقها ، تقفز لتنهش الهدوء من حولها .. دوائر الزمن حولهاتتسع وتضيق ، وذكريات تنفرط وتتجمّع .كم تسللت منتظرة مروره ، أحبّته وهماً نائيا، وجذبتها أبخرة الوهم . وتفيض الخواطر المؤلمة والفرحة من جوارحها تمزّق صمتها ،في أمسية هاربة من دوائر الزمن التقيا .تأمّلته بفضول . كان عميق الحزن ،وابتسامته غلالات كبرياء هادئة ، ووجهه كروض تعبث به زهور الربيع . ..تعددت اللقاءات، وانبثق الحب شلال صفاء ،حدثها بتعرٍ حقيقي عن ذاته ، كان صوته مقنعاً وساحراًيسقط الصدق تحت وطأة كثافته والدوامة الرهيبة لفحولة الرجولة تؤلمه ، تشده ، تجعله يحسّ بأسف عميق لأنه لا يستطيع الإنجاب لنقص ما في تركيبه الفيزيولوجيكنت أتأمّل عينيه ، ولم أكن بحاجة إلى سماع بقية القصّة ، ولم أهرب بيدي من أتون يده ، وتعجز الكلمات أحياناً عن استيعاب انفعالاتنا ، ألا يمكن العيش بلا أولاد ؟ألا يمكن أن نتجرّد من أنانيتنا ؟.. الوجوه ، الأشياء أبخرة تتطاير في فضاءالطائرة ، وهي عروس له بثوبها الأبيض ، وعيناه لا ترحمان لحظة الانجذاب الخفية،كان شتاءً مدهشاً ، وكنا نطير فراشتين بين ضحكات مطر الأرض . تتراكض السنونتبتعد ، بصعوبة تفتح عينيها ، تنهض بتثاقل من غيبوبتها . الباب يقرع ، هذا وجه أختها يطلّ من البعد ، وفرحة اللقاء تشعّ تسير إلى جانبها تتحسس الأرض بعصاها،تغرف الحنان من وجه أختها ، تحدّثها تجلس معها ويغمرها ارتياح مبهم . أنياب الوحدة . تشتد على الجسد المسترخي تحت لسعات المرض والقهر ..لن تكون وحيدة بعد الآن السيارة الضخمة تترنّح في الدرب الطويل ، تمدّ يدها إلى حقيبتها التي بقيت لها ،تتحسس الأوراق المالية ثمن منزلها ، بعد أن أقنعتها أختها ببيعه والسفر معها .وسوف تزدهر أموالها في مشروع تجاري تقاسمها به . تشتدّ كآبتها كلّما أسرع السائق . لقداقتلعت من جذورها وتزدادالتصاقاً بأختها . لقد وصلتا ، وضمّها دفء منزل أختهاشهوراً ، ثم وجدت نفسها من جديد تنحدر تحت الأرض ، وتنزلقالأحداث ، وتتفجر الحروفوغربان الغدر تنهش أعماقها المحزنة وتترسب ليالي عذابها السوداء ، وتتابع بصوت متهدج : عادت الغربة تضغط علىعنقي ، بتّ عارية من كلّ شيء حتى من صلة القربى ، لقدرمتني أختي هنا في /دار العجزة/ .. وجوع أختيالجشع إلى ثروتي من منزلي الصغيرالمباع جعلها تقبض على كل شيء ، وتقذفني إلى هذا المصيرلماذا ترتعد ؟ ربما يحزنها إعادة الأحداث الأليمة ، فالحرب نفثت غضبها الأهوج علىلبنان واقتلعت منزل أختها ، عرفت ذلكفي مساء اليوم التالي بعد أن توقف القصف . ومن زوايا غرفتها يتراءى لها شقوق منزل أختها المخرّب وآلاف آلاف ...الليرات . تهذي باكيةخائفة ..أصوات غامضة أشباح تطاردها ، وصوتها ينوح في نهاية الأشياء..رحمك الله يا أختي ويغرورق دعاء الكلمات من شفتيها بالدمع .. لكن هل تموت الومضات الإنسانية
أحدث إضافات الديوان
إضافة تعليق - (( user.name )) - خروج
ادارة موقع الشعر (( comment.message.user.name )) (( comment.message.user.name ))
(( comment.message.text ))
لا يوجد تعليقات.