باب جديد للدخول - سعاد الكواري

أشعر بالخوف وبالقلق
من أن أصطدم بحائط
أو يصطدم بي ظلك
***
من أي باب أدخل إليك
بعدما أغلقت الأبواب جميعها وابتعدتَ
أو أغلقتها الريح
***
من أي باب أدخل إليك
من أي ثقب أدخل وأرفع عنك الغطاء
غطاء الجهات وأقترب من جسدك المنهار
قل لي : من أي باب أدخل إليك
لقد تعبت قدماي فعادت توسلاتي لا تكفيك
أيها الجالس على عرش المكابرة
على تلة الرفض
هذا جسدي وهذه الطعنات
هذه العيون التي تتعقبني دون رحمة
هذه العيون التي تعرف جيدا
كيف تعيدني إلى تابوتي المفتوح
تعيدني وتغلق الأبواب خلفي
فكيف أدخل إليك
أزحزح هذا الحائط أو ذاك
كيف ألبسك وأقف عند أبعد شرفة
لأودع حمم الصمت
***
 
من أي باب أدخل إليك ؟؟
أأدخل من الباب الموارب قليلا ؟؟
أأزحزح لوعة الحذر ؟؟
أأبسط شمس المراوغة المثيرة ؟؟
علك تلتفت إلي تميل برأسك نحوي وتدعني أدخل
كما فتحت لي أبوابك جميعها في السابق
تفتح لي بابا أخيرا للدخول
 
***
يا سيد العطاء
أنا الغيوم التي تتكاثف في سمائه
أنا الحطب الذي يشتعل دون لمس
أنا دم البحيرات وعواء الليل
من النافذة أدخل إليك
من الشقوق
من الأبواب المواربة
كالغبار أتشرد بين زواياك
يا سيد العطاء والحب
آوِني لا طريق أمامي غيره
لا مدينة
لا محطة
لا قطار
لا حقيبة تحملني إلى المنفى
ولا منفى يستقبلني فآوِني
أنا النار التي تشتعل دون لمس
أنا النار وأنت الريح
أنا الريح وأنت النار
***
تأتيني من الشرق ومن الغرب
من الجنوب ومن الشمال
من الجهات الأربع
مثلما يأتي الربيع والصيف والخريف والشتاء
مثلما يتعاقب الليل والنهار
مثلما تغادر الطيور وتعود
مثلما تنام الحيوانات في بياتها الشتوي
وتقوم مع بداية الصيف
تذهب وتعود
من سفينة إلى قطار إلى شجرة
فأكبر ، أتعلق بأقواس النجاة
وأدنو من أسوارك البعيدة
***
حين سلمتُ العواصف جسدي
أدخلتني في دوامتها اللذيذة
هي الريح تهبط على مهلها
مهووسة بصراخي وشهيقي
الريح التي تتسول بين الممرات
باحثة عن كائنات سعيدة
كائنات لم تعرف معنى للألم
كائنات مبهورة بضجيج العصافير
كلما أشرقت شمس
هي الريح التي ترصد تحركاتنا
كلما اشتدت أو هدأت أو ذابت
***
مشيتُ
كانت الطرقات الإسفنجية تجذبني للداخل
وكنت مستسلمة لها
أهدهد ذاك الوحش الذي يصرخ
أهدهده كي يرحل أو يبتعد
وحين وصلت
وصلت وحيدة وعارية .
***
هي الطعنات التي وسمتني بها الوحشة
هي العزلة ..
هي الطرقات التي تذوب بين كفي وتتداخل
 
 
هي الطرقات الموزعة بين فراغين وفضاء
فعدت لا أميز بين ظلي وبين عباءة الأثر
حين اقتربت من متاهته لبستُ جسده المتعب
لبستُ رأسه المشطور وغطست
كأنني عروسة بحر لا تزال تجهل فنون الغطس
لكنني غطست ففتح البحر ذراعيه واحتضنني
***
أنظر إليك
علك تمنحني نظراتك الأخيرة
أنا المرأة المتوجة بقناديل السماء
أضيء كلما مسني نيزك
أو عبرتني نوافذك المفتوحة على الغابات
أشتعل أيضا كلما سقطت على فراشك الرطب
وتدثرت برائحتك
***
نجمتك الوحيدة
أقود شمعدان الحلم
وهو كاشف عن ذراعين مطوقتين بخريف وديع
نجمتك الشاحبة كالمرايا والساطعة كالشمس
أدخل إلى رأسك
أتنقل بين أدراجك المملوءة بالعرائس
وبصور فوتوغرافية مزيفة
نجمتك القريبة ، البعيدة
المغسولة بأمواجك الهائجة
أمواجك القوية
نجمتك الواقفة بين خطين مستقيمين
تفصلهما ريح مجنونة
***
تناثرت أيامي كجناحي يمامة هاجمها ذئب
تناثرت أمامي
فعدت ألملمها وألصقها بجسد المدى
هو المدى يأخذني إلى أبعد سلسلة في تاريخي
 
تاريخي المنثور فوق قمم الجبال
وبين أفخاذ الوديان
تاريخي المشطور إلى أجزاء صغيرة
تلهو بها الفئران ولأرانب البرية
هكذا أتناثر في خرائب الماضي في مدافن الحرمان
باحثة عن مستقر
أنثر سيرتي الناقصة بين زواياه
فاحتضنتني جنية بشعة
كانت هي أيضا تبحث عن جسد ميت
فسكنتني
***
على هذا الشكل أو تلك الهيئة الغريبة
رأيت الصبح يمخر السماء
كأنه طوفان مؤجل
كأنه شظية تسللت من فوهة مجهزة للهجوم
رأيته شامخا فدنوت منه
حدقت في عينيه
فتاهت حدقاته المهيمنة على الكون
دنوت منه اكثر
ركعت عند هامته البيضاء
رضعت حليبه الممزوج برطوبة الضحى
وعندما أحنى رأسه لي سألته :
من أنت..؟؟
فابتسم ثم ملأ حقائبي بالتوت
عبّأ جيوبي بالرمل الناعم
وقادني خلفه صامتا وأنا أيضا صامتة
أرضع حليبه الممزوج برطوبة الضحى وأشهق
الصبح قادني إلى نقيضه
فاختلطت من حولي الأشياء وامتزجت
فعدت لا أميز بينهما
عدت لا أميز إلا صرخة تلك الجنية
التي سكنتني أو ضحكتها
***
 
لم يكن على الشجرة إلا تلك العصفورة
كل العصافير طارت منذ بزوغ الفجر بقليل
فرمت رأسها على حافة العش
العش المتوج بأغصان من الفضة
كانت تراقب الطيور
وتحرك جناحيها كأنها تتمرس بلعبة جديدة
وكنت أحدق بها أراقبها من بعيد
عصفورة صغيرة احتضنت جناحيها ونامت
فأطل من بين الأغصان ثعلب ضخم حام حولها
فلم تخف
اقترب منها حاول أن يهجم
فسقط على الأرض
سقط
فسقطت فوقه بعض الأغصان الجافة وأوراق الشجر.
عندها أزاحت غصنا منحنيا وأطلت
رأته يحدق فيها ويطلب منها أن تطير
حركت جناحها الأيمن
حركت جناحها الأيسر
ثم رمت رأسها على حافة العش
العش المتوج بأغصان من الفضة
فاقتربت منها وسألتها :
- من أنت ؟؟
ففر الثعلب هاربا وفرت الريح خلفه لكنها لم ترفع رأسها لم تحرك جناحيها فاخفضت رأسي كي أعبر، اخفضت رأسي فرأيت وجهي يلمع على سطح البحر فرميت أحجارا صغيرة ، رميت أحجارا في قلب البحر ومضيت.
***
كان البحر هائجا عندما وقفت أمامه
تتلاطم أمواجه بقوة
تشهق كائناته من شدة الألم أو من شدة الانتعاش
كان هائجا فخفت أن أسأله
فابتعدت
أيها البحر لن تهدأ أمواجك التي سكنت رأسي
لن تهدأ أبداً حتى ولو خلعت رأسي ورميته
لن تهدأ أمواجك التي سكنتني
***
في رماد الحلم اختبأت صورة وهيئة
فلبست الحلم
قلت لسفينته المبحرة في قلبي
انتظري لحظة واحدة
لحظة أخيرة
ربما أستعيد ذاكرتي وآتي
ربما أدخل جنة الحلم
ربما تتقمص جسدي تلك الجنية الشقية
ربما يمنحني الصبح ضياءه
هكذا اختبأت في قلبي صورة وهيئة فعشقتها
عندها لم أسأل الطين عن مادته والرمل عن سبب تفتته
لم أسال الجبال عن سبب صمودها المذهل
عندما رأيته رميت دفتر تساؤلاتي في الجحيم
عندها فقط تذكرت ما قاله الصبح
الصبح الذي أرضعني حليبه ومضى
ما لم تقله العصفورة
العصفورة التي كانت تومئ لأخوتها من بعيد
البحر الذي كان يزمجر
بينما كنت أنزف سيل تساؤلاتي دون إجابة
عندما رأيته تذكرت الحضن الذي رفضني منذ الطفولة
تذكرت مفرداتي التائهة وسط قاموس الندى
فرحت أدندن للصبح وهو يرقص فوق صلصال المدينة
أدندن لهمس القواقع وأطارد سطوة الصمت
أهبط أرضه فيرتج جسدي
يا سيد الفتوحات العظيمة
هاأنا عند بابك
أحمل دفترا ممزقا وطباشير ملونة
ورأسا يضج بصراخ مخنوق
 
افتح لي أبوابك يا سيد العشق والعطاء وآوِني
فخلفي خيول مجنونة وقراصنة
خلفي فرسان مولعة باصطياد وحشة الطرق
آوِني ..افتح لي قلبك أو قميصك
***
الشرفة المفتوحة على الصحراء
تطارد حزنا رمته غجرية ورحلت
فاندمج بالصدى
هذه الوعول الصغيرة التي تمشي على مهلها في المساء
هذه الخطوط القرمزية التي تتشكل كلما لمست رأسك
هذه الأشلاء التي تتجمع تحت الشرفة
شرفتنا المفتوحة على الصحراء
شرفتنا الوحيدة في عتمة الليل
هذه الأرض التي ترتج تحت قدمينا
ونحن نرقص ونطلق العصافير من أقفاصها
نشتريها في المساء
ونطلق سراحها في الصباح
نودعها ونطلب منها أن تحمل أمانينا
وتنثرها فوق السهول
فربما تحققت ذات يوم
ربما تحققت
***
منتصف الليل
رصاصات تهجم على مرايا الصمت
أبعد رأسي عنك
أميل إلى الخلف
رأسي المتعب يتأرحج بين أناملك وديعا وهادئا
فتلتهمني عيناك
منتصف الليل
الريح تسابق صوتك والعربات المسرعة
فتطوّحنا دوامة الشوق
هذه الأرض أرضنا
 
هذه السماء سماؤنا
***
بدأت أكبر
أتسلق أقواسك العالية
أتشبث بسيقان الحلم
بوجع النوافذ
بالظل
هي الفصول الأربعة
القطيع الذي أفلت من صاحبه
وانتشر في الأرض
الشظايا التي التصقت بقميص الخطوة
واغتسلت بمياه الخوف
الأصدقاء الذين كانوا يتبعوننا
دون أن يلمحونا
الفوضى التي كانت تتشعب في فراغ السنابل
المدن التي استقبلتنا
المدن التي ودعتنا على أمل اللقاء
الرسائل التي تعلقت بالمخالب
وانتشرت كالعبير
الفرح الذي خلع رداءه وقذفه علينا
فارتديناه بهدوء
هي الفصول الأربعة
خطواتنا المشحونة بأمل يتيم
حبنا المعلق بين السماء والأرض
هي الفصول الأربعة
الربيع ، الصيف ،الخريف ، الشتاء
هي الفصول الأربعة
أيتها الشمس احرقي غابتنا..
المكتظة بعسل النبوءة
أيها الطقس المشاكس توغل بيننا
فربما واجهتك هدأة مؤقتة
 
ربما واجهتك زوبعة أو عاصفة
***
مضينا ، متجهين نحو زرقة شاحبة
قطعنا طرقا كثيرة
كانت ممتلئة بملائكة وشياطين
ورحنا نسابقهما
دخلنا مدنا ضيقة
مشيت خلفك
تبعتك
ثم اغتسلت بعطرك
اغتسلت بروحك
التي كانت تحوم كأنها غسق غير مرئي
كأنها حمرة الغروب
تبعتك
لبست جبة الريح
تقمصتها
فحطت الريح عند بابي
ونامت كأنها قطة مذعورة
فنمت إلى جانبها
بينما راح صوتك يزلزلني ببطء
وأنت تبتعد
***
يكفيني القليل من الوقت
يكفيني القليل القليل
القليل القليل من الوقت
يا أقسى مدينة إنني أنزفك
وأنزف معك جروحا صغيرة
بدأت تتضخم
سهولا وأودية
يا مدينتي الصامتة
الصارمة كالعدم أعتقيني
أطلقي سراحي
 
لكي أقف على أعتابك
دون أن أفقد لهفتي الأخيرة
حرريني يا مدينتي القاسية
اتركيني
فربما قادتني قدماي إلى الطريق
***
من أي باب أدخل إليك ثانية
من أي باب
من أية نافذة
من أية فتحة
من أي شرخ أو ثقب
أتسلل إليك ثانية
بعدما أغلقت الأبواب جميعها
أو أغلقتها الريح
© 2024 - موقع الشعر