صداقة من عالم آخر! - أحمد علي سليمان

يَهَبُ الصداقة رُوحَها الأخيارُ
ويَمُدُّها بضيائها الأبرارُ

وتَزيدُها شرَفاً شَهامة أهلها
فالبذلُ دَأبٌ ، والعطاءُ شِعار

والتضحِياتُ طبيعة وجِبِلة
والجُودُ نَهجٌ ، والنفوسُ كِبار

والموتُ حتى الموتُ لا يُودي بها
فلها إذا حلَّ الرَّدَى استمرار

لا تُشترى بالمال والدنيا معاً
خسِرَ الشراءُ ، وأخفقَ السمسار

وَصْفُ الصديق بدقةٍ مُتعذرٌ
مهما أصوغ تُبَرِّرُ الأعذار

هو شمسُ دنيا المرء صافية الضيا
ودُجى الحياة تُزيله الأنوار

وهو الهواءُ لكائن مُتنفس
وهو النجاة إذا دَهَتْ أخطار

وهو المَلاذ لحائر مُتشتتٍ
يُزري به التضييقُ والإحصار

وهو المُشيرُ به المَشورة تحتفي
فإذا أشارَ الخِل لا يحتار

وهو الظهيرُ على المصائب إن طغتْ
ويحل بعد عُبوسها استبشار

وصديقُ قِصتنا عجيبٌ أمرُه
خبَرَ التجارة ذلك الخِتيار

ودَرَى التعاملَ كهفه ورقيمَه
وأحبَّه العُملاءُ والتجار

لم تدخل الأموالُ يوماً قلبه
فمكانها جَيبٌ له أزرار

واسألْ (بُريدة) عن صَدوق طيِّب
بين الرجال يَزينُه الإكبار

لم يُلفَ غشاشاً ولا مُتملقاً
وعلى أمانته بدَتْ آثار

ذو سِحنةٍ سودا وقلب طيِّب
أثنى عليه الغيَّبُ الحُضار

والأهلُ في (السودان) كم شادوا به
فلهم به ترويسة وفخار

وله صديقٌ مِن (بُرَيدة) صالحٌ
يُدعى (سُعوداً) ، والتجارة كار

فالتاجران تصادقا وتجاورا
كلٌ لصاحبه صديقٌ جار

والمنهجُ الإخلاصُ والتقوى معاً
في قلب كلٍّ ما انتشى الدينار

عقدان في درب التجارة لم يَجُرْ
خِلٌ على خِل ، فنعم جوار

ومضى إلى (السودان) يُتحفُ أهله
ولكَم تَشُوقُ غريباً أسفار

وأتى ليشهد عودة ملتاعة
لم يدر ماذا خبأتْ أقدار

ومن المطار إلى المُصَلى حِسبة
لم يُعط فرصته لتشرُف دار

وإذ بأمر لا يُصَدَّقُ وصفه
والعقلُ كم تغتاله الأخبار

أنهى الإمامُ صلاته في جُمْعةٍ
وأهابَ بالحُضار أن يختاروا

إما خِتامٌ ، أو صلاة جنازةٍ
فرأوا جنازتهم ، وطابَ خِيار

وأذاعَ الاسمَ على الحُضور مُكرَّراً
لمَّا يُصدِّقْ سَمعه قيدار

إن المسَجَّى في المُلاءة خِله
والموتُ حَتمٌ ، ليس منه فِرار

فسعودُ مات ، وقد مضتْ أيامُه
وبَكاه بعد رحيله الأخيار

وأتيتُ أبناءً له بعد العَزا
ورَثيتُ حتى هَدَّني استعبار

وبدأتُ تصفيه الحساب مُلبياً
طلباتِهم ، وتوالتِ الأفكار

قلتُ: الديونُ الآن تُخصَم أولاً
فرضَ الفرائضَ واحدٌ قهار

فمئاتُ آلافٍ ثلاثة دَينُه
والدائنُ (الشاميُّ) لا يَمتار

ولسوف يأتي ، إن مَوعدَه غداً
وأنا مُقِرٌ ، هل يَطيبُ قرار؟

فتلعثمَ الأبناءُ ، ثم تحَرَّجوا
مِن أن يُقِرُّوا ، فالقرارُ خَسار

قالوا: هي الأوراقُ تُثبتُ دَينه
أرأيت دَيناً ما له إشهار

أين الأدلة كي نوفيَ دَينه؟
لمَ لمْ تُدَونْ؟ ما هي الأعذار؟

وأبى الجميعُ سدادَ دَينَ أبيهمُ
وبقيتُ يَلفحُني الجوى والنار

وسألتُ نفسي كيف أخذلُ صاحبي؟
أوَهكذا يتصرفُ الأحرار؟

وأنامُ تكويني ابتسامة صاحبي
وتقول: ساعدني ، وسوف تُجار

فعرضتُ دُكاني وكلَّ تجارتي
لمَّا يكنْ قيدٌ ولا إجبار

لكنْ مُروءة تاجر صان الوفا
وتعاقبَتْ بعد الوفا الأضرار

فالبيعُ تم ، وقِصتي مشهورة
منثورة ، وبها شدتْ أشعار

والدَّينُ سُدَّ ، فما عليَّ مَلامة
والأمرُ ذاع ، وكُشِّفتْ أسرار

والتاجر (الشامي) أرجعَ ثلْثه
مائة من الآلاف ليس تُعار

هو قد تنازلَ راضياً ومُبارِكاً
فليكرمِ المتفضلَ الجبار

واختار تُجاراً لينشرَ قِصتي
بين الكِرام ، وغلبَ الإيثار

فإذا (بُريدة) تحتفي بحكايتي
وإليَّ وحدي وُجهتْ أنظار

ومُنحتُ دُكانين دون دُرَيهم
وتجارتي ازدهرتْ وزال مَرار

وبضاعة مُنحتْ بنصف حقوقها
والخلقُ سَخرهم ليَ الستار

وزكاة أموالي ملايينٌ ثلا
ثة أخرجتْ ، فلتذهب الأعثارُ

ولينعم الفقراءُ بالخير الذي
جادتْ به نفسي ، فنِعم يَسار

مناسبة القصيدة

(هذه قصة حقيقية واقعية حدثت بين صديقين أحدهما سعودي يدعى (سعوداً) والثاني سوداني يدعى (قيداراً). تاجر سوداني يقول: كنتُ أعمل في التجارة مع صديقي السعودي في مدينتنا بُرَيدة. وفي ذات يوم ذهبت لصلاة الجمعة في الجامع الكبير كعادتي. فقال الإمام: الصلاة على الجنازة. فتساءلنا من هو المتوفى؟ فإذا هي الصدمة إنه صديق العمر (سعود). توفي في الليل ولم أعلم بالخبر إلا في المسجد فلقد كنت مسافراً وبعد شهور من الحادث بدأت أصفي حساباتي المادية مع أبناء سعود وورثته. وكنت أعلم أن سعوداً رحمه الله تعالى عليه دين بمبلغ 300 الف ريال لأحد التجار. فطلب مني التاجر أن أذهب معه للشهادة بخصوص الدين عند أبناء سعود ، وحيث إن الدين لم يكن مثبتاً بشكل واضح وصحيح ، لأنه تم عبر عدة صفقات ، ومن هنا فلم يتضح لأبناء سعود هل والدهم سدد ثمن الصفقات أم لا؟ ورفض أبناء سعود التسديد ما لم يكن هناك أوراق ثبوتية تثبت أن والدهم لم يسدد المبلغ. وبعد يومين لم أنم فيهما. وكنت كلما أغمضت عيني بدت لي ابتسامة سعود الطيبة. وكأنه ينتظر مني مساعدة. ولذا عرضت محلي التجاري بما فيه من بضائع للتقبيل والبيع ، وجمعت كل ما أملك. وكان المبلغ 450 ألف ريال. فسددت دين سعود. وبعد أسبوعين جاءني التاجر الدائن لسعود وأعاد لي مبلغ 100 ألف ريال. وقال: إنه تنازل عنها عندما عرف أني بعت بضاعتي ومحلي من أجل تسديد دين صديقي المتوفى. والتاجر الدائن ذكر قصتي لمجموعة من تجار بريدة. فاتصل بي أحدهم وأعطاني محلين. وذلك لأعود لتجارتي من جديد. وأقسم لي أن لا أدفع ولا ريال. وبعد عقدين من التجارة ونحن الآن في رمضان 1436هـ ، أخرجت زكاة مالي وقدرها ثلاثة ملايين ريال. فلما طالعتُ القصة الحلوة ، رحتُ أحكيها شعراً. لقد كان قيدار وسعود ثنائياً في الأخوة والصداقة يكاد ينعدم وجوده في عالمنا الذي طغت عليه. الماديات ، وكأن أغلب أهله لا يؤمنون بقيم ولا بمبادئ تكون عليها الحياة.)
© 2025 - موقع الشعر