لا تعرفني ولكني أعرفها! - أحمد علي سليمان

أرانِي بها أرقى الذرى والمَعاليا
وأهزمُ بالبر الأذى والدَّواهيا

وأسمو إلى المجد المَنيف مُوَقراً
وإنْ لم أكنْ يوماً لذا المجد بانيا

يُبَلغني حُبي لذي الأم عِزتي
فأمسِي إلى البر المُضاعف ساعيا

تقولين: هذي الأم لا تعرفُ الفتى
ومعرفتي تكفي ، كفى بي مُواسيا

ومهما تعَدَّتْ في التلاحي حُدودَها
فلستُ لها فيما تجنتْ مُعاديا

كفاني بها أمَّاً بُلِيتُ بحِملها
فبتُ لها إلفاً وخِلاً وراعيا

تُغذبني حِيناً ، وحِيناً تُريحُني
وأبقى رهينَ الحالتين مُؤاخِيا

وكم لطمتْ وجهي ، ولم تَدْر ما أتتْ
فأمسِي بهذا اللطم للوجه راضيا

وكم ناولتْني من عطير بصاقها
فأدلكُه دَلكاً ، وأضحِي مُصافيا

وما أعذبَ السبَّ البذيءَ أخاله
لكل جراحاتي الطبيبَ المُداويا

وأجمَلُ ساعاتي إذا عنفتْ يدي
بِلَيٍّ ، فأبقى منه رَدحاً مُعانيا

وتطلبُ مني ما تمنى فؤادُها
فيشغلني بَذلي ، وإنْ بتُّ طاويا

وجئتُ بها المَشفى ليبرَأ سُقمُها
وأسألُ رباً للعليلين شافيا

بأن يَشفيَ الأمَّ التي لاعتلالها
أقاسي ، وأبقى طِيلة الليل داعيا

وآسى لِما عانتْ ، ويخنقني الجوى
وأحيا رهينَ الكرب والحزنِ ثاويا

ألا سَجِّلي أجدَى العقاقير حِسبة
لفضلى قلتْ أقوامَها والمَواليا

تقولين: خذها للمَصَحَّة ، واسترحْ
تُريدين أن أحيا مدى الدَّهر خاليا

أنا قلتُ ما عندي ، وللطب قوله
وما كنتُ بالتوصيف للطب واعيا

فقِيسي لها ضغطاً ونبضاً وسُكّراً
كفى باعتلال القلب داءً وآذيا

وكوني لها بنتاً تُداوي سِقامها
ووَفي لها مِثلي ، فكم عِشتُ وافيا

ألا إنني أحيا ببسمة ثغرها
وبِرِّي لها يُزجي الرِّضا والمَعاليا

عَلِمْتِ لماذا قلتُ: يَكفي تعرفي
فليس رباطي قط بالأمِّ واهيا

وأطمعُ في جناتِ عدن بوُدِّها
وأفنى وتفنى ، والعطا بات باقيا

مناسبة القصيدة

(طبيبة سعودية تقول: دخل على رجل يسمى محمد في الثلاثين من عمره ، ومعه أمه يحضنها لأنها تريد أن تهرب منه ، وترمي خمارها فيعدله وتعض يده وتخدشها وتبصق في وجهه وهو يتبسم ، أدخل أمه العيادة ، فرمت خمارها وبدأت تضحك ضحك المجنون الذي لا عقل له ، وتدور على طاولة الطبيبة! سألته من هذه: قال أمي. قلت: ما بالها؟! قال: ولدت بلا عقل ، قلت: وكيف أنجبتك؟ قال: زوَّجها جدي لأبي عسى أن تُرزق بولد ، فتزوجها أبي ، ولكنه طلقها في العام الأول وقد حملت بي وأنجبتني ، ومنذ أن كنت في العاشرة من عمري و أنا الذي أخدمها و أطبخ لها ، وإذا أردت أن انام اربط قدمي في قدمها ، أخشى أن تهرب ولا أجدها. قلت: لماذا أتيت بها. قال: تُعاني من السكر والضغط. والأم تضحك وتقول: أعطني بطاطس؟ فيعطيها. تبصق في وجهه فيضحك ويمسح بصقتها. ثم قلت له: هذه أمك لا تعرفك؟ قال: لا والله ما تعرف أني ابنها ، لكني أنا أعرف أنها أمي ، والذي خلقني يعرف أنها أمي وأني ولدها! ثم تناديه أمه وتقول: أنت كذاب لم ما تسفرني إلى مكة؟ قال: الخميس القادم يا أمي ، أما قلت أني سأذهب بك الخميس؟ فقلت: أتذهب بها وقد زال التكليف عنها؟ قال: كلما أرادت مكة أذهب بها لا أريد أن تتمنى شيئاً وأنا قادر على تحقيقه ولا أعمله لها! ثم خرج مع أمه. وأغلقت الباب وبكيت بكاءًا مريرًا! فقد سمعت عن البر ، لكن أن أرى شابًا لا تعرفه أمه ، وحياته تحت قدمَي أمه ، يخدمها حتى يقضي الله بينه وبينها صفحة بر جميلة ، غيره كان قد رماها في مصحة الأمراض العقلية ، لكنه أراد رفقتها ليبقى باب الجنة مفتوحًا في حياته! والعبرة أن هذا بر رجل بأم لا تعرفه ، ونرى العقوق من أبناء تعذبت أمهاتهم تحت أقدامهم حتي يكبروا. كل واحد يعد زاده الذى يحتاج إليه يوم القيامة أمام ربه. وصدق الله العظيم إذ يقول: (فَمَن یَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ خَیۡرࣰا یَرَهُۥ وَمَن یَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةࣲ شَرࣰّا یَرَهُ) رزقنا الله وإياكم حسن البر والطاعة لوالدينا وجعلهم لنا باب الجنة المضمون بحول الله تعالى. كم كتبتُ عن البر كما كتبتُ عن العقوق! ولكن هذه القصيدة في البر لها طابع خاص وتذوقا سامياً راقياً ولولا كونها حدثت لقلت من نسج الخيال!)
© 2024 - موقع الشعر