نخلة القصيدة - محفوظ فرج

نخلة القصيدة
——————-
 
وغادَرَنا مَرَّةً
زائرٌ حلَّ فينا شهوراً ثلاثة
أو بأقلِّ القليل
وحينَ كبرتُ عرفتُ بأنَّ
المغادرَ فصلُ الربيع
كنتُ في حضنِ أمّي
تخافُ عليَّ
من النسمةِ الشاردة
وإمّا أحَسَّتْ بها لَفْلَفَتْني
وَغَطَّتْ بفوطَتِها وجهيَ الغضَّ
وما زال منها عبيرٌ قد اشرِبَ في دورتي
الدموية
وإنْ حلَّ صيفٌ خرجتُ إلى باحةِ البيتِ
أحبو وأوَّلُ ما وقعتْ نظراتي
على كائنٍ أخضرٍ
لستُ أعرفُهُ تتراصفُ أوراقَهُ بنظامٍ مدببةً
ومحاطاً ومنتصباً وسطَ الحوش
تواترُ أوراقِهِ المستطيلة
كانتْ تلامسُ أرضيَّة
البيتِ حتى تصَوَّرْتها تَتَحَرَّكُ مثلي
وحينَ اقتربتُ إليها
ارتمتْ طفلةٌ ببراءتِها
لتداعبَني
ثمَّ شاكتْ يدي بدبابيسِها
وتعالى صراخيَ من وخزِِها
فهبَّتْ إلى نجدتي الوالدة
وقدْ حملتنيَ في حِجْرِها
تقولُ : وحيدي تَمَنَّيْتُ لو وَخَزَ السعفُ
قلبي ولا يوخِزُك
وفي السنةِ الثانية
عرفتُ بأنَّ التي وَخَزَتْني
تُسَمّى فسيلة
وإنْ كَبُرَتْ سُمِّيَتْ نخلةٌ
وَلَمّا ذهبتُ لدرسِ الكتاتيبِ
أهدتْ إلىَّ قصاصةَ سلّاء كي
أتَتَبَّعَ فيها الحروفَ بوقتِ القراءة
وظلَّتْ معي تكبرُ
ويكبرُ حبي لها دونما أشعرُ
فَقُدّامَ إكليلِها
كم دعتني بخضرتِها اليانعة
لأجلِ التقاطِ الصور
رأيتُ مثيلاً لها في بيوتٍ
لجيراننا
وعلى عملةِ النقدِِ مرسومةً كنتُ أبتاعُ
حلوى بها
وحدثتها عن مفاتنها
وتميزها بالمحاسن فوق الشجر
فقالت : أما قد سمعتَ
المُغَنّي يغنّي :
............
 
( فوگ النخل فوگ
يابه فوگ النخل فوگ ..... والله ما اريده
باليني بلوة )
 
يا منْ رحلتمْ وعنكمْ تسألُ النخلة
متى تعودونَ منها أنتمُ أغله
تقولُ لي إن من أوصتْ بِهمْ دجلة
ماكان أجملَ ذاك الشملَ ما أحله
 
...............
لحبِّ النخيلِ
قد استبدلوا النخلَ بالخِلِّ
دارتْ عليها عصافيرُها
معانقةً نسماتِ الصباح
تداعبُ في سعفِها لتُردّد ألحانها
الصامتة
ويطربُ من شدوِها ناظري حينَ تهتزُّ
نشوانةً في الهواء
......
.....:..
بلغتُ الصبا
أصبحتْ فوقَ رأسي تُظَلّلُني
وتُظَلّلُ نارنجةً قربَها
وتصدُّ بمصفاتِها في الرواقِ الغبار
كبُرنا معاً وتجدّدَ ما بيننا عهدنا
مثلما كان راودني طائفٌ أنني
منذُ كانتْ مقدسةً عصرَ ( آسر حدون )
كنا التقينا
وقد عرَّفَتْني بطيبتِها ومحبتها المفرطة
وقالتْ : عَراقَتُنا واحدة
ألستَ ابنَ دجلة وهيَ سقتْكَ لبانَ الوفاءِ
وإنّي أنا بِنْتُها لم أفارقْ عناقي لها
تعالَ وقرِّبْ يديكَ إليَّ وَخُذْ من جناني
ثمارَ الخلود
ولا تنْسَني في المشيبِ فانَّ حنينيَ
لا ينمَّحي في توالي القرون
 
د. محفوظ فرج
١٤ / ٧ / ٢٠٢٠م
٢٣ / ذوالقعدة / ١٤٤١ه
© 2024 - موقع الشعر