بين البهلول والرشيد! - أحمد علي سليمان

منحَ (الرشيدُ) مَقامَه بُهلولا
يوماً لينظرَ حُكمَه المَأمولا

فلرُبما وافى بأزكى حِكمةٍ
حتى يُكافأ بالجميل جميلا

ولربما أعطى حُلولاً فذة
لدغاول تُضفِي لظىً وذُحُولا

ومضى (الرشيدُ) لشأنه في نزهةٍ
ليُزيلَ هماً في الفؤاد وَبيلا

وليُمْتِعَ النفسَ التي كم حُمِّلتْ
عِبءَ الخِلافة في الديار ثقيلا

لكنه أوصى (أبا وَهْب) بطيِّب قوله
حتى يكون عن (الرشيد) وكيلا

بالعدل فاحكمْ ، لا تكنْ متجبِّراً
لتكون عني في الأنام بديلا

فإذا ببُهلول يقودُ حَميرَه
ونأى بها صوبَ المَفازة ميلا

ورأى (الرشيد) جُموعَها مستغرباً
متأملاً فيما ارتآه طويلا

متسائلاً عن أمرها ، ماذا جنتْ
لتُقاد قسراً بُكرة وأصيلا

فأجاب (بُهلولٌ) جعلتُ ضريبة
تُجبى على زوج يعيشُ رذيلا

بالجبر تحكمُه الحليلة ، فارتضى
أحكامها ، وتكلف التبجيلا

فالأمرُ ما أمرتْ ، ويُذعِنُ طائعاً
فإذا تأبى أن يعيش ذليلا

فليرتحل عن داره مستغنياً
أمسى الخلاصُ من البلاء رحيلا

فإذا استكان لحُكمها ، فضريبتي
منحي حِماراً طيباً وذلولا

ورأيتُ في دربي فتاة غضة
ترجو لها بين الرجال حلالا

فجهرتُ هذي ل (لرشيد) عَروسة
حتى تُبدِّل حاله تبديلا

لتُعيد فوراً ما تمرَّقَ من صِبا
حتى تُرَجِّع بأسَه المأمولا

فنرى (أميرَ المؤمنين) بقصرها
بين الأنام مفضلاً تفضيلا

يسعى وقد منحتْه نورَ جمالها
والوجه يُمسي في الورى القِنديلا

فإذا ب (هارون) يقولُ مُبكِّتاً
مِن صوتِكَ اغضضْ ، لا تكن مخبولا

أخشى استماع (زبيدةٍ) لحديثنا
كي لا أكون بُعيدها مسؤولا

فإذا ببُهلول يُضاعِفُ أخذه
وعلى عُقوبته يُقيمُ دليلا

ويقول: إنك حاكمٌ متأمرٌ
لك ذللتْ هذي الدنا تذليلا

أدِّ الحمارين ، العقوبة ضُوعفتْ
والحكم صُودِرَ عُنوة ، وأديلا

سبحان مَن منحَ الرشادَ عِباده
وحَبا الفِراسة عبدَه البُهلولا

مناسبة القصيدة

(بهلول شخصية حقيقية ، واسمه الحقيقي أبو وهب بن عمر الصيرفي الكوفي ، كان شاعرًا حكيمًا ، وكاملًا في فنون الحكم والمعارف والآداب في زمن هارون الرشيد. اشتهر بالطرافة الممزوجة بالحكمة ، وتوفي عام 807م. طلب بهلول من الرشيد أن يحكّمه بالعباد مدة شهر ، فرفض الرشيد طلبه. ولكن بهلول ألح عليه في الطلب ، إلا أن الرشيد لم يستجب له. وبعد الإلحاح والمشاورات ، اتفق الطرفان على أن يحكم بهلول البلاد ليوم واحد ، بشرط ألا يظلم أحداً وفي اليوم المحدد لحكم بهلول ، ذهب هارون الرشيد لنزهةٍ في حدائقه الغناء مع الأسرة الملكية ، وعلى رأسهم زوجته السلطانة زبيدة وفي وسط النهار التقي هارون الرشيد ببهلول ، حيث كان الأخير يجر وراءه مئات الحمير. فاستغرب هارون الرشيد لهذا المنظر وسأله: ما هذه الحمير يا بهلول؟ ومن أين أتيت بها؟ فأجابه بهلول: مررت بالبلاد يا مولاي ، وتفحصت أحوال الناس ، وجعلت ضريبة على كل رجل تحكمه زوجته حماراً. وقررتُ أن آخذ هذه الحمير إلى تاجر حمير في البرية ، فإذا قبضتُ ثمنها وضعتُه في بيت مال المسلمين وكذلك سولتْ لي نفسي. فاستغرق الأمر أن أقتادها بعد البكور وحتى الظهيرة. فقال له هارون الرشيد: من المعقول يا بهلول في مدة سويعات معدودة تجد هذا الكّمّ من الرجال محكومين لنسائهم ، فلهن الكلمة والظهور عليهم؟ فقال بهلول: نعم يا مولاي ، لقد تحريتُ الدقة لئلا أظلم أحداً. وعموماً دعنا من هذا يا مولاي ، المهم أني لم أظلم أحداً ، وأثناء تجولي في البلاد رأيت ما لا عين رأت ولا أذن سمعت. ماذا رأيت يا بهلول؟ رأيت يا مولاي فتاة جميلة جداً جداً ، إذا خرجت في النهار تقول للشمس تنحي لأجلس مكانك ، وإذا خرجت في الليل يغيب نور القمر وهو في ليلة البدر. فتمنيت أن تكون هذه الفتاة زوجة لك يا مولاي ، وتكون إلى جوار سيدتي الأميرة (زبيدة) أختاً لها في الإسلام وزوجة لأمير المؤمنين. فالتفت إليه هارون الرشيد وقال له: أخفض صوتك يا بهلول كي لا تسمعنا السلطانة زبيدة. فقال بهلول: ولأنك الحاكم فهات حمارين. وفعل الرشيد ممتثلاً ومعتبراً. فلما طالعتُ قصة الرشيد مع بُهلوله ترجمتُها شعراً على شكل حكاية شعرية مضحكة. وإن بدت حكاية ساخرة ، إلا أنها احتوت على كثير من الحِكمة.)
© 2024 - موقع الشعر