ضحية طبق الفول! - أحمد علي سليمان

اصْدُقْ تعِشْ في قِمة الإسعادِ
بالصدق تبلغ ذِروة الأمجادِ

تُنجيك مِن أعتى البلاء صَراحة
وتصونُ عِرضك من أذى الأوغاد

والصدقُ تاجٌ كم يٌشرِّفُ صادقاً
ويزيدُ رفعته عن المعتاد

واسمع لقصة من علتْ درجاتُه
وسما على الرفقاء والأفراد

وكفي ب (طلعتْ حربِ) إنْ زكَّى وإنْ
أمسى بشخص واثقاً بحِياد

يُضفِي عليه محبة ومَهابة
بين الأنام وصفوة الأجواد

هذي الفِراسة لا تسلْ عن عُمقِها
إن (ابن حربٍ) سيدُ الآحاد

اختارَ (أحمدَ سالماً) ليُعِينه
في الاقتصاد ، فكان خيرَ عِماد

كم حاز من ثِقةٍ نأت عن غيره
وبدون تقدِمةٍ ولا مِيعاد

كم نالَ آفاقَ احترام جَمَّة
ومناقِباً مَرسومة الأبعاد

وتمُرُّ أعوامٌ ، وطالَ مُرورُها
و(أحَيمدٌ) في القوم مثلُ الحادي

حتى ألمَّتْ ب (ابن حَربٍ) وَعكة
لزمَ الفراشَ ، وضاقَ بالعُوَّاد

فأتوْا جميعاً كي يُواسُوا رأسَهم
إذ صاح فيهم أين خِل فؤادي؟

قالوا: (ابنُ سالمَ) في الإدارة عنده
جَرْدٌ ، فكيف يجُوسُ بابَ النادي؟

قال: اذكُروني عنده ، فليأتني
فمَجيئُه يُفضي إلى الإسعاد

قالوا: سنفعلُ فابتشرْ نحن الفدا
فاسمحْ لنا يا خِيرة الزهاد

قال: اذهبوا في صِحةٍ وسَلامة
في حِفظ ربي المُستعان الهادي

وأتى (ابنُ سالم) بعد لأي باسماً
يُطري ، ويَمدَحُ كالهَزار الشادي

فإذا (ابنُ حربٍ) تنزوي أسقامُه
وقلا الورى مِن رائح أو غادي

ورأى (ابنَ سالم) ، والسعودُ تزفه
بلحونها في هَدْأة العُبَّاد

ألقى السلام مُرحِّباً ومُواسِياً
بعِبارةٍ شطنتْ عن القصَّاد

وأمَدَّ بالأخبار مَن يهفو لها
بتولهٍ وترقبٍ ورَشاد

فارتاحَ أنْ كلُّ الأمور على الذي
يرجوه مِن خير ومِن إرشاد

حتى إذا وصلَ اللقاءُ خِتامه
طلبَ (ابنُ حربٍ) منه بعضَ الزاد

هو صَحنُ فول يشتريه لخِله
من مطعم (التابْعِيْ) بكل وداد

فأتى (ابنُ سالمَ) ناسياً مَوعُودَه
نسيَ الوصية ، لم يكنْ بالعادي

لكنه كذِباً على الله ادَّعى
غلقَ المحل بدافع الإحداد

فمضى (ابنُ حربٍ) يَستبينُ قضية
فرضتْ عليه بزيفها المَيَّاد

حتى إذا علمَ الحقيقة لم يُطِقْ
كون (ابن سالمَ) مُشرفُ الأفراد

أنهى ارتباطاً كم نأى إنهاؤه
بعِبارةٍ قي صَولة الإزباد

وإن استساغ الكِذبَ عَبْدٌ مَرة
فلقد يُضيرُ الكِذبَ عَيشَ بلادي

في صحن فول لا تُمرَّرُ كِذبة
ولقد تُمَرَّرُ في اعتماد مزاد

وأراه في المليون يكذبُ قانعاً
مهما حكى مِن سِيرة الأجداد

مناسبة القصيدة

(كان الاقتصادي الكبير الأستاذ طلعت حرب يثق ثقة عمياء في الشاب الموهوب أحمد سالم! وكان قد أسند إليه عدة مناصب كبيرة في مجموعة شركات بنك مصر رغم صغر سنه ، وقفز به فوق رؤوس كبار الموظفين ، وأصبح أحمد سالم صاحب أكبر مرتب وصل إليه رجل أعمال في مصر ، وفشلت كل محاولات أصدقاء طلعت حرب في زعزعة أحمد سالم عن العرش الذى يجلس عليه ، ولم يصدق التقارير التي كتبت ضده ولا المستندات التي حاولت النيل منه! وذات يوم كان طلعت حرب مريضاً فى بيته ، وذهب أحمد سالم للاستفسار عن صحته ، فقال له: أرجوك يا أحمد أن تحضر لي معك صباح الغد طبق فول مدمس من محل التابعي ، الذي كان أشهر محل في هذا الخصوص ، وذهب أحمد سالم إلى عمله ، ثم سهر مع أصدقائه وفي الصباح ذهب إلى طلعت حرب لزيارته ، وكان قد نسي طبق الفول المطلوب ، وسأله طلعت حرب: هل نسيت الفول المدمس؟ وفوجئ بهذا السؤال ، واضطر لأن يكذب ، وادعى أنه ذهب إلى المحل ، فوجده مغلقاً لوفاة أخي صاحبه ، وبعد انصرافه استقل طلعت حرب سيارة ، وذهب إلى محل التابعي ، ووجده مفتوحاً ، فجلس إلى إحدى الموائد ، واستدعى التابعي صاحب المحل وقال له: البقية في حياتك يا فلان بن فلان ، فدهش الرجل دهشة عجيبة وغريبة ، وسأل التابعي: ألم يمت شقيقك؟ فقال: لا! وسأله: هل تأخرت في فتح المحل أمس؟ فقال: أبداً ، بل فتحت المحل الساعة الخامسة صباحاً كعادتى كل يوم ، وهنا اتجه الأستاذ طلعت حرب إلى مكتبه فى بنك مصر ، وأصدر قراراً فورياً بفصل أحمد سالم من جميع مناصبه! وبسؤل طلعت حرب: هل يساوي طبق الفول المدمس كل هذا العقاب الصارم القاسي؟ فقال: إن الرجل الذي يكذب عندي في طبق فول مدمس ، لن يتورع عن أن يكذب في مليون جنيه. إن هذه وظائف ثقة يا قوم! وما دام قد فقد ثقتي ، فهو لا يصلح للعمل معي لا اليوم ولا أمس ولا غداً! ولن يستعيد ثقتي أبداً! فقدان الثقة لا يعوضه شيء في الدنيا! الصدق ذلك الخلق العظيم ، المفتقد عند الكثيرين من أهل زماننا! حث عليه ربنا بقوله: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين). والصدق كما قال حبيبنا محمد – صلى الله عليه وسلم –: يهدي إلى البرّ ، والبر يهدي إلى الجنة." وللصالحين والفضلاء في الصدق أقوال جميلة وعبارات سديدة أتحفكم ببعضها: قال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -: (عليك بالصدق وإن قتلك) ، وقال أيضاً: (لأن يضعني الصدق ـ وقلما يفعل ـ أحب إلى أن من أن يرفعني الكذب وقلّ ما يفعل) ، وقال: (قد يبلغ الصادق بصدقه. ما لا يبلغه الكاذب باحتياله). وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: (أربع من كن فيه فقد ربح: الصدق والحياء وحسن الخلق والشكر). وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "ما كذبت مذ علمت أن الكذب يشين صاحبه". وقال الإمام الأوزاعي رحمه الله: "والله لو نادى منادٍ من السماء أن الكذب حلال ما كذبت". وقال يوسف بن أسباط رحمه الله: "لأن أبيت ليلة أعامل الله بالصدق ، أحب إلى من أن أضرب بسيفي في سبيل الله" ، وقال الشعبي رحمه الله: "عليك بالصدق حيث ترى أنه يضرك فإنه ينفعك. واجتنب الكذب حيث ترى أنه ينفعك فإنه يضرك". وقال عبد الملك بن مروان لمعلم أولاده: "علمهم الصدق كما تعلمهم القران". ولا يخفى أن مزية الصدق ترفع الصادقين بين الناس جميعاً! وفي هذا يقول الشاعر: عـــــود لسانك قـــــول الصدق تحظ به ****** إن اللســــــان لِما عــــودت معتــــــــــــادُ أيها الأخ الطيب الموفق: سل نفسك ما الذي يجعلك تخالف الصواب في قولك وفعلك أحياناً؟ وكم مرّة تقع في ذلك يومياً؟ وهل تذكرت آية المنافق (إذا حدّث كذب)؟ وهل أخذت على نفسك عهداً ألا تقع في دائرة الكذب مهما كانت الظروف ، ومهما أضرّ بك الصدق ، وليس بفاعل؟ أخي اصدق القول والفعل تفز برضوان الله تعالى ولا يضيرك ما يقول الناس عنك أنه لا بد من المجاملات الكاذبة كي نتربع في قلوب الناس على حساب دخولنا في دائرة الوعيد. أخي: افتح صفحة صدق بيضاء نقية ليس من الغد بل من هذه اللحظة ، وارفع شعار الصدق في كل حين حتى تلقى ربك به ، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صدّيقاً ، وأنت صدّيق – بإذن الله تعالى. إن أعظم ما في الصدق أنه يقود صاحبه إلى الجنة ، وهذا هو الفوز العظيم قال – صلى الله عليه وسلم -: (أنا زعيم بيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً) ، فهذا هو الرّبح الأوفر لأهل الصدق ، وأي ربح أعظم من الجنة لكن يبقى أن تسأل نفسك: ما هو نصيبك من هذا الخير العظيم؟ فإنه ما زاد نصيب الرجل في الصدق إلا وقلّ نصيبه من الكذب ، والعكس كذلك ، وقد قالوا: قد يكذب الصدوق ـ أي نادراً ولكن لا يصدق الكذوب ـ. وعود إلى طلعت حرب وأحمد سالم وطبق الفول! كتبت في هذا الموقف هذا النص!)
© 2024 - موقع الشعر