طبيب يقتل ولده! - أحمد علي سليمان

أتى مَشفاه بابن بعضُ ناس
يُقاسِي مِن مُصاب ما يُقاسي

وتُثخِنه الجراحُ ، وليس يدري
عن الدنيا ، وتُضنِيه المآسي

وتغمُرُه الدماءُ عَلتْ جراحاً
تساقط مِن (شِماغ) واللباس

وحار القومُ موقفهم عصيبٌ
ونوديَ: هل طبيبٌ أو مُواسي؟

مصابٌ حاله يُضنِي ويُبكِي
أغيثونا ، وخلوا ذي الكراسي

فأين مروءة وجبتْ عليكم؟
فقِيلَ: الدفعُ مشروط أساسي

هي العشرون ألفاً دون نقص
إذا دُفِعتْ نعالجُ أو نواسي

فقال المحسنُ المفضالُ: هذا
مصابٌ عبقريٌ وابن ناس

وما في الجيب مالٌ أو دليلٌ
له حالٌ يبوءُ بالابتئاس

فأنقِذ يا طبيبُ ، وكن كريماً
ولا تكُ عاتياً صلبَ المراس

مع المقدور هذا في استباق
وصار كوردةٍ بعد اليباس

سأدفعُ ما تعينَ بعد حين
أقول صراحة دون التباس

فقيل: الدفعُ ، أو فارقْ وأقصِرْ
فقال: برئتُ منك فيا تعاسي

نزيفُ مصابنا صُنبورُ دمٍ
تحَدَّرَ شاكياً ظلمَ الأناسي

سننقله إلى مَشفى بعيدٍ
ولن يرد الخواطرَ أي ناس

وتبدأ رحلة الإنقاذ ، لكنْ
فنونُ الطب باءتْ بارتكاس

عِزازٌ حاولوا وبكل عزم
ولم يستسلموا لجوى الإياس

ولكنا تأخرنا كثيراً
وضاع الوقتُ في بذل التماس

وأسلمَ روحَه لله طوعاً
بعين أذعنتْ في وسْط راس

وكأسُ الموت دائرة علينا
سنشربُ كلنا من مُرِّ كاس

ودق الهاتفُ المشحون وَجْداً
خطيبته أفاقتْ من نعاس

وقالت: أين يا هذا خطيبي
بصوتٍ كله شجوى حماسي

فقِيلَ: أصيبَ ، ثم قصَدتُ مَشفى
به الدكتورُ قاسي القلب خاسي

أبى أن يُسعِف المسكين عمداً
وكفي عنه ردتْ باحتباس

وكان أبوه مستمعاً ، فأغضى
حياءً ، ثم أوغلَ في المآسي

وقال: قتلتُ – واأسفى - وحيدي
لَعاً للمال مِن ذهب وماس

ولم أنقذه ، هل طاشتْ بعقلي
وذاكرتي مُدامُ (أبي نُواس)؟

مناسبة القصيدة

(شاب في مقتبل العمر يقود دراجته النارية وهو يتكلم بالهاتف النقال ، ويشاء الله تعالى أن يصطدم بسيارةٍ مسرعةٍ ويقع على الأرض. أين الإسعاف يا ناس؟ أدركوا المصاپ يا قوم. ويتقدم شابٌ عنده روح الشهامة والمروءة والنجدة ، ويضع الشاب في سيارته ، ويأخذه إلى أقرب مستشفى خاص. وهناك نادى بأعلى صوته: أين الطبيب؟ أين الإسعاف؟ أنقذوا المصاب ، أرجوكم. ويرد عليه أحد الأطباء بكل برود: من هذا المصاپ وما اسمه؟ ويرد الشاب الذي أحضره لا أعلم من هو. وكان المصاپ يئن من الألم ، والډماء قد غطت وجهه حتى أخفت معالمه تماماً. الأمر الذي استحال معه التعرف عليه. فيقول الطبيب للشاب: اذهب وادفع للصندوق خمس وعشرون ألف ريال قبل أن تدخله إلى الإسعاف. فيقول الشاب بأن هذا المصاب لا يوجد معه شيء من المال. فيرد الطبيب ونحن لا نستطيع أن نستقبله ، ولا نسعفه ، هكذا تعليمات إدارة المستشفى. فيقول الشاب: أنا أدفع عنه ، ولكن لا أحمل نقوداً معي الآن ، أسعفوه وأنا سأذهب لإحضار النقود ، أسرعوا وأسعفوه ، فالشاب ينزف الډماء وقد يموت. فيرد الطبيب بسخرية أشد لذوعة من سابقاتها: لا نستطيع أن نقبله قبل دفع النقود. فيثور الشاب ويصيح: أي ضمير تملكون من الإنسانية؟ إنكم لا تملكون ضميراً ولا وجداناً ولا ذمة ولا كرامة. ولم يتمالك نفسه ونظر إلى الطبيب نظرة احتقار ثم شتمه وبصق في وجهه ، وخرج وهو يحمل المصاپ إلى المستشفى العام. ويدخل الشاب إلى غرفة الإسعاف ، ويبدأ الطبيب في تقديم العلاج للمصاپ ، ولم تنفع المحاولات الجادة في إسعافه. يا للهول الله أكبر. لقد فارق الحياة. صمتٌ رهيبٌ خيم على طاقم الإسعاف. وفجأة يرن هاتفه النقال ، ويرد عليه الشاب الذي أسعفه: من يتكلم؟ من أنت؟ أين صاحب الهاتف؟ من أنت؟ أين صاحب الهاتف؟ ولماذا ترد على هاتفه؟ ثم يقول الشاب: من أنت يا أختي؟ ترد أنا خطيبته. ويعَقب قائلاً: ما اسم هذا الشاب صاحب الجوال؟ فتقول سائلة: لماذا يا أخي تسأل هذا السؤال؟ أين هو؟ فيقول لها: أنا آسف إنه في المستشفى ، جرى له حادث. أنا أريد التكلم مع والده ، أين هو؟ ومن يكون والده؟ ويتضح أنه الطبيب ذاته فلان صاحب المستشفى الخاص في المكان الفلاني. إذن بلغي والده وأخبريه بأننا في المستشفى العام. ويسمع والده الطبيب بالخبر ، ويتصل بالمستشفى العام وهو يصيح أسعفوه. أسعفوه. ريثما أحضر ، وأنقله إلى المستشفى الخاص. ويصل الطبيب إلى المستشفى سائلاً: أين المصاپ؟ وهنا كانت الکارثة الفاجعة. عظم الله أجركم. لقد فارق الحياة. وينظر الطبيب من حوله فيجد الشاب الذي أسعف ولده وهو الذي شتمه وبصق عليه. إذا أنت الذي ......نعم أيها الطبيب. ولم يتمالك الطبيب نفسه من البكاء وهو يقول أنا الذي قتلتك يا بني. وصل ابنه مصاباً للمستشفى الذي يملكه ، فيطرده دون أن يعلم أنه ابنه ، من أجل المال. فلما طالعتُ هذه القصة الدامية المأساوية المبكية تأثرتُ بها جداً جداً. وكانت هذه القصيدة ترجمة دقيقة لتأثري البالغ.)
© 2025 - موقع الشعر