تأبين محمد العيد آل خليفة - أحمد علي سليمان

يا قبرُ أرسِلْ دموعَ الوَجْد أنهارا
أما بصُرتَ بدمع الصِّيد مِدرارا؟

محمدُ العِيدِ خلانا ، وودَّعنا
وكم بكينا أجاويداً وأخيارا

لو كان يُرجعُ دمعُ العين مَن رحلوا
بكتْ عيونٌ على الماضين أدهارا

تهمي العيونُ على الأحباب غيَّبَهم
موتٌ يُوافقُ آجالاً وأقدارا

إذا انقضى أجلٌ ألفيت صاحبه
مُودِّعاً أهله والصحبَ والدارا

يبقى المليكُ ، ويفنى الخلقُ قاطبة
وليس يُبقِي لهم في الأرض آثارا

وتلك سُنة رب الناس ماضية
بها يُقِر جميعُ الخلق إقرارا

مَن غيبوا اليوم عن مَشهود عالمنا
بالأمس كانوا به بالطبع حُضارا

لو خُيِّرَ الموتُ لم يَجرحْ مشاعرَنا
بل يَستجيبُ لِما نزجيه أعذارا

وإن للموت في يوم الجزا أجلاً
كبشاً سيُوتى به يَشُدُّ أنظارا

أهلُ الجنان ، وأهلُ النار في شُغُل
ويُسألون فلا يُخفون أخبارا

هل تعرفون الذي العيونُ تنظرُه؟
يقول كلٌّ: (نعمْ) ، يَسوقُ إشهارا

وبعدُ يُذبَحُ ، والخلودُ يَخلفه
وليس تجري دموعٌ بعدُ أنهارا

ويَذهبُ الحزنُ والتنغيصُ عن أمم
حَلوا الجنانَ بفضل الله أبرارا

عَزاؤنا فيك يا (ابن العيدِ) تقدِمتي
هذي التي تغمُرُ القلوبَ أنوارا

ويحَ (الجزائر) تبكي فقدَ شاعرها
وإنْ يكُنْ خلّفَ المجنوزُ أشعارا

فكم تغنى بأشعار يَهيمُ بها
فخراً ، تجوبُ مَفازاتٍ وأمصارا

وكم تمثلَ ما بالدار مِن ألم
جَواه يُخفِي عَذاباتٍ وأسرارا

وكم هجا طغمة الباغين ما رحِمَتْ
شعباً ضعيفاً ، شكا لله من جارا

سل الفرنسيسَ عن أشعاره فضحَتْ
مستعمرين إذا عاينت فجَّارا

محمدُ العيد لم يخشَ الألى كفروا
إذ لا يخافُ وليُّ الله كفارا

تعقبَ الفذ بالأشعار باطلهم
وأرسلَ الشعرَ تبشيراً وإنذارا

نادى بحُريةٍ مِن قومه سُلِبتْ
كي يُصبحوا بعد قشع الظلم أحرارا

وثارَ يُعلِنُ رفضَ الجَور في بلدٍ
كم أظهرَ الحق في البُلدان إظهارا

فاقتِيدَ للسجن والأغلالُ في يده
أساورٌ تنتوي أنْ تأخذ الثارا

وسل (قسنطينة) وسِجنَ كُدْيتها
لأنها شهدتْ لليث إحصارا

وسل طواغيت عن ظلم ببسكرة
أمضاه مستكبرٌ تكلفَ العارا

سل الحراسة حول الدار مُشهِرة
سيف العَداء يَلي في الكيد أشرارا

آلَ الخليفة هذي اليوم تعزيتي
في شاعر جابَ أفقَ الشعر مِغوارا

أم البواقي عليه اليوم باكية
كما بكتْ قبله شُمَّاً وأقمارا

سل (البشيرَ) عن الأشعار باركَها
طراً ، وأكبرَها – والله – إكبارا

سل (المنافيَ) ، والأشعارُ تُتحِفها
حتى أزالتْ جَوىً يكوي وأكدارا

محمدُ العيد لم تَخمُدْ مطامحُه
وفي انتصار دعاة الحق ما امتارا

جزائرُ الخير لم تنكرْ جمائله
لا يعرفُ الصِّيدُ للجميل إنكارا

هو الذي جاهدَ الفجَّارَ منتظراً
نصراً أصَرَّ على جَدواه إصرارا

حتى استقلتْ ، فحياها وبَجَّلها
وأسفرَ الصبحُ بعد الليل إسفارا

وعاد للبيت في زهدٍ ومَسكنةٍ
للذنب يستغفرُ التقيُّ غفارا

ما بين (بسكرةٍ) وافى وباتنةٍ
مناولاً غيرَه درباً وأدوارا

حتى إذا حَلتِ الرُّجعى بباتنةٍ
وأعذرَ الموتُ للرحمن إعذارا

طوى الحِمامُ بأمر الله صفحته
وأقبرَ الجسمُ بعد الموت إقبارا

وفي (العُزيلات) بات الجسمُ مُنجدلاً
يشكو إلى الله تقصيراً وأوزارا

أكرمْه يا ربنا ، وارحمْ تذلله
وكنْ له المؤنسَ الكريمَ والجارا

واخلفه في شِعره ، أنت العليمُ به
انشرْ قصائدَ أملاها ، وأفكارا

واسترْ عليه ذنوباً أنت تعلمُها
لا ذنبَ إمَّا دعا ذو الذنب ستارا

واجبُرْ كُسوراً عَتتْ عن أن يُعالجَها
ما الكسرُ إمَّا التقى ذو الكسر جبارا؟

مناسبة القصيدة

(في مثل هذا اليوم 31 من شهر يوليو عام 1979م رحل عنا إلى الرفيق الأعلى أمير شعراء الجزائر والشمال الأفريقي محمد العيد آل خليفة وباستقراء التاريخ وجدتُ أن أبخل طائفة من الناس في رثاء أهل صناعتها وأصحاب كارها (الشعراء) للأسف الشديد يموت الشاعر ، وله أصدقاء وأصفياء شعراء كثيرون ، فلا يجد من يشمر بصدق عن ساعد الجد ويرثيه بقصيدة ما ، مبتغياً برثائه وجه الله رب العالمين ويوم مات الشاعر المصري محمد حافظ إبراهيم شاعر النيل ، رثاه الشاعر الجزائري محمد العيد آل خليفة رحمه الله تعالى بقصيدةٍ طويلةٍ ماجدة وها أنذا أردُّ له الجميل ، وأبكيه شِعراً على ذات بحره وقافيته متناولاً شيئاً من حياته وجهاده ، رحمه الله تعالى! قال محمد العيد في مطلع قصيدته الرثائية لحافظ:- قم عز مصر ، وعز الشـرق أقطــارا ...*... فحل بمصر خبا كالنجم وانهــارا خطبٌ جرى في ضفاف النيل زلزلــة ...*... وثار ملء جواء الشرق إعصارا وطار كالبرق ينعى شاعـــــــــراً لبقاً ...*... إلى أقاليم فيها صيتــــه طــــــارا يا ويح مصر خلت (من حافظٍ) وخلا ...*... في الهامدين ، كأن لم يثوها دارا كأنه لم يجـــــــــــــــــدها كالحيا أدباً ...*... جماً ، ولم يروها كالنيــل أشعارا إلى أن ختم الشاعر الجزائري الحكيم مرثيته الباكية الآسفة بقوله:- وابن الجزائر بابن الشــرق مرتبــــط ...*... وإن أحاطت به الأشواك أســـــوارا يا رحمة الله هبي نفحـــــــــــة وهمي ...*... غيثا على حافظٍ في القبر مــــدرارا في ذمــــــــــــة الله لا أنساه ثانيــــــة ...*... حسبي بحبي له عهــــداً وتذكـــارا رحم الله محمد العيد آل خليفة ولقاه نظرة وسروراً ، وجزاه بمنّه وفضله خير الجزاء عن الجزائر والجزائريين جميعاً. اللهم آمين).هـ. والآن ها أنذا أرد له جميله على مصر وأهلها في بكاء شاعرها محمد حافظ إبراهيم شاعر النيل بنص مماثل! وله السبق ولي شرف المحاولة!)
© 2024 - موقع الشعر