اللقمة تزيح النقمة! - أحمد علي سليمان

عَطاؤكِ يا بُنية مِن كَمالِكْ
وجُودُكِ ليس يُنقِصُ بعضَ مالِكْ

وظنكِ بالعطاء يجُرُّ فقراً
تمخضَ في الحقيقة عن ضلالك

فجُودي عن رضاً وحُبور قلبٍ
ليُسفرَ جُودُ كَفكِ عن دَلالك

رأيتُ الجُودَ يُتحِفُ كل فضلى
فجُودي كي يُعبِّرَ عن كمالك

وإن الجُود بدرٌ ، فاستنيري
أليس البدرُ أكبرَ مِن هِلالك؟

وعِفي عن حرام ليس يُغني
لكي تستمتعي بسنا حَلالك

يُحِبُّ الناسُ مَن يحنو عليهم
فرقي يُصبحون على مِثالك

فِعالكِ بالعطاء مُشَرِّفاتٌ
كأن الجودَ يُشرقُ في فِعالك

ومَن تبذلْ تُصِبْ بالبذل صِيتاً
أمَ اْن البذلَ لم يخطرْ ببالِك؟

ولا تستنكِفي عن نفع قوم
ولا عن نصحِهم دَوماً كذلك

ومالي قد فقدتُ فقلتُ: أعطِي
وفقدُ المال دَربٌ للمهالك

وقلتُ: أجُودُ عَلَّ المالَ يأتي
ألا يا نفسُ جِدِّي في نوالك

وأعددتُ الطعامَ أسدُّ جوعاً
لجَوْعَى حالهم بالفقر حالك

فلمَّا جُدتُ جاء المالُ يسعى
أما أبصرتِ أموالي هنالك؟

وأعطِينا المئاتِ بدون كَدٍ
فهل مَرَّ الثراءُ على خيالك؟

وبتِّ اليوم تختالين زهواً
أليس الجُود يَدأبُ في اختيالك؟

ألا اعتدلي إذا ما السعدُ وافى
فإن الخيرَ يُقدِمُ في اعتدالك

خِلالكِ زانها ربَّ البرايا
وجُودُ النفس مِن أرجى خِلالك

وحُبكِ للعطاء بَشيرُ خير
وعِز النفس يَنبُعُ مِن جمالك

به شرَّفتِ نفساً بعد أهل
وعِزكِ في الدنا مِن عِز آلك

ومَن نذرَتْ لنجدتها عِيالاً
تسُدْ ، فاستكثري حُسنى عِيالك

أراني بعد هذا العَرض نشوى
لأني قد أجبتُ على سُؤالك

ومَن يُمسكْ عن الفقراء مالاً
فهذا صَدِّقي بالحِرص هالك

مناسبة القصيدة

(تقول إحدى السيدات: عشت وأنا صغيرة لفترةٍ مع جَدتي التي لم تنل قسطاً كافياً من التعليم ، ولكن رزقها الله بدلاً من ذلك حِكَماً فطرية عجيبة وإيماناً عميقاً. كانت تمر بالبيت أحياناً ظروف اقتصادية صعبة مثلما يحدث في كثير من بيوت الناس لأي سبب (مثل ألا يستطيع خالي إرسال مال إليها). ولا أدري كيف كانت تدبر أمر البيت أثناء ذلك إلى أن تمر الأزمة بسلام. لكن في يوم من الأيام لا أنساه أبداً. مرت جدتي بأزمةٍ طاحنةٍ مفاجئةٍ لم تكن في الحسبان. حيث نزلت إلى السوق لتشتري بعض الحاجيات فضاع منها كيس نقودها أو سرقه أحدهم. المهم أنه ضاع. فعادت إلى البيت ودخلت فوراً وهي شاردة نحو دولاب الملابس لتخرج آخر ما تبقى من نقود. ولا أنساها حين تسمرت وهي تنظر إلى الخمسين الباقية في البيت كله. وأمسكت بها لدقيقةٍ كاملةٍ تنظر إليها وكأن نهراً من الأفكار والحسابات المعقدة يمر بعقلها. وظهرت لأول مرةٍ في عيني المرأة القوية دموعُ الحيرة والعجز. ثم كأنها قررت حلاً مفاجئاً ، فالتفتت إليّ بحماس وتصميم تطلب مني أن أساعدها فيما ستفعله. لكن الذي طلبته كاد يصيبني بالجنون. لقد طلبت مني أن أنزل لشراء عشر بيضات وربع كيلو عدس. فظننت أنها ستطبخه لنا. ولكنها أخذت تطبخ العدس في استغراق وإتقان. وتصاعدت رائحته الجميلة لتغمر البيت. وسلقت البيض ، وسخنت بعض أرغفة الخبز. ووضعت بعض الملح والفلفل في ورقة صغيرة ، ثم أخذت كل هذا. ونزلت إلى الشارع. وأعطته لبعض الفقراء في الحيّ. فكدت أجن ، فقد نفد ما عندنا من مال. وكدت أصرخ فيها: "على الأقل كنت تعطيني بيضة منها" وكأنها قرأت ذلك في عينيّ المذهولتين. فقالت في إيجاز وثقة كلمتين فقط: اصبري وسترين! فرجعنا إلى البيت قبيل العصر. ولم يكن أمامنا إلا أن ننام لبعض الوقت. لكننا استيقظنا على صوتٍ طرق مزعج لباب البيت. فإذا بولدٍ ممن يبيعون في السوق يسألها: (كيس الفلوس هذا لك يا حاجة)؟ وكان سقط منها أمام محله ، ولما حاول اللحاق بها تاهت منه في زحمة السوق. ولأنه أمين فقد سأل الباعة حوله بعد نهاية السوق عمن يعرف بيت السيدة التي مواصفاتها كذا وكذا والتي تأتينا كل أسبوع فأرشدته إحدى البائعات. ولم تمض ساعة. حتى ارتفع صوت طارق آخر. وإذا بصديق لخالي عاد من سفر ليعطينا ديناً عليه لخالي اقترضه منه قبل السفر مع هدايا وحلويات. يومها قالت جدتي: يا بنتي ، "اللقمة تزيح النقمة". كلما تضيق بك وتلاقي روحك متضايقة. أطعمي فقيراً أو محروماً! فقلت لها ضاحكة: (كنا نطلع حاجة ثانية أحسن من العدس). قالت: العدس من الأكل الذي ربنا ذكره في القرآن الكريم. وكمان أنا أعطيه للناس لأني أحبه. قدمي للناس من اللقمة التي تحبينها ، فإذا فعلت زادك الله من نعمه وفك كربك. وكبرت فيما بعد وعرفت وأدركت: (أنفق يا ابن آدم أنفق عليك!) ، وتعلمت قول الله تعالى: (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه ، وهو خير الرازقين)! كما تعلمتُ أن صنائع المعروف تقي مطارق السوء! كتبتُ أقول:)
© 2024 - موقع الشعر