قربان على مذبح الحب! - أحمد علي سليمان

هذي الأمومة في ديوانها نُقِشتْ
وبالحنان سَمَتْ ، وبالصفا اتصفتْ

رغم العذابات تُحنِي الهامَ شِدَّتُها
فما استكانتْ ، ولا كَلتْ ولا نصبت

ماري رأيتُكِ في الميدان فارسة
والحربُ من حولها ناراً قد اشتعلت

إذ مات زوجُكِ ، والأوضاعُ عاصفة
ما الظن بامرأةٍ ثُكلى إذا افتقرت؟

تأسى ، وأطفالها الأيتامُ أربعة
باتوا بفقرهمُ يَلقَون كلَّ عَنَت

في قرية بطرتْ عمداً معيشتها
ولو أنابت إلى الرحمن ما بطرت

في عالم يَقهرُ الأيتامَ يَحرمُهم
من العطاء ، لهم حقوقه وجبت

وبنتُ (بيفان) لم تفتُرْ عزائمُها
وللمصائب والأهوال ما رضخت

وحولها الناسُ لكنْ لا قلوبَ لهم
وعن بليتها عيونهم عَميت

وشوَّهتْ شدة (الإكروم) خِلقتها
وكل سِحنة حُسن بالسِّقام مَضت

حتى الملامحُ غاضتْ في بشاشتها
والقبحُ خيَّمَ ، والنضارة انتحرت

والوجهُ أبئِسْ به ، طمَّتْ ضخامته
وأفقدتْه صُوىً (ماري) به عُرفت

ولو نظرت إلى الأطراف جَندلها
شؤمُ التضخم مِن تأثيره يبست

واستغربَ الناسُ مَرآها ومنظرَها
كأنها بالذي مَرَّتْ به مَسِخت

وزادها الفقرُ إيلاماً ومَسكنة
لكنها مِن زوال العُسر ما يئست

حتى إذا عُقدَتْ أخزى مسابقةٍ
لولا سخافة أهليها لمَا عُقِدتْ

عنوانُها: (أقبحُ النسوان) موعدُها
شهرٌ ، ومِن بعده الرسومُ قد فرزت

فاختارها القومُ ، فالتشويهُ طابعُها
كأنها بخِلال القبح قد خلقت

والناسُ ما أدركوا الإحراجَ يَقتلها
لولا عِيالٌ لها والفقرُ ما قتِلت

فازت بجائزةٍ ما كان أحقرَها
في القبح سُحقاً لها واهاً لما فعلت

والسيركُ يَشهدُ في دريم لاندهِمُ
بأن (ماريْ) على معنى الإباء جنت

والسيركُ في (رينج لنج) ذاعَ صورتها
بمنظر يُفجعُ العيونَ إن نظرت

هل بنت (بيفانَ) وحشٌ كاسرٌ شرسٌ
به الجماهيرُ إمَّا عاينتْ فتنت؟

ضَحَّتْ لتُطعم بالتحقير أربعة
هي الجميلة في تقدير مَن ولدت

ضَحَّتْ بسُمعتها في كل مُصطدم
وبعد لأي بسِكين الفدا ذُبحت

ماريْ بصرتُكِ قرباناً ، وفِديتُه
هذي القصيدة إذ بالدمع قد كُتبت

قربانُ قدِّمَ للأولاد تضحية
في مذبح الحب كم دماؤه سفكت

في كل سِيركٍ دِما ذبح يُمارسُه
أصحابُ أيدٍ غلا أثمانه دَفعت

ماريْ تأثرتُ بالأقصوصة اجتذبتْ
حَسّي ، فترجمتُ ما يراعتي نقشت

ولا أجيز الذي أتيتِ من حِيل
فإن شِرعتنا عن كل ذاك نهت

لكنْ أوضحُ ما بالأم مِن شفق
ولا أبرِّرُ يوماً باطلاً صَنعت

لو كنتِ مسلمة دَعَوتُ مُبتهلاً
وقلتُ: يَغفرُ ربُّ الناس ما عملت

مناسبة القصيدة

(ترددتُ كثيراً قبل أن أشرع في كتابة هذا النص! وأشفقتُ على نفسي طويلاً من أن يخرج متنطعٌ من المتنطعين ، فيتهمُني بأنني أشك في كفر غير المسلمين ، أو أصحح مذهبهم! حيث إن النص عن امرأة غير مسلمة ، ولكنها أتتْ بلون من ألوان التضحية وفق دينها ، هذا اللون يدل على عظيم حبها لأبنائها والتفاني في رعايتهم ، ولو كان ذلك كله على حساب سُمعتها وكرامتها! ولقطع النظر عن المرأة وعن عقيدتها وعن سلوكها المناسب لعقيدتها ، فالذي وقفتُ حِياله وكان سبباً مباشراً في كتابة النص ، هو مقدار الإخلاص في الأمومة والمسؤولية الذي تمتعت به هذه المرأة! فبعد وفاة زوجها عام 1914م ، وجدت (ماري آن بيفان) نفسها وحيدة تمامًا ، أمًّا منهكة تحمل عبء تربية أربعة أطفال ، في عالم لم يترك لها سوى الألم والوحدة. لم يكن هناك من يُعِينها ، ولا لم تكن هناك يدٌ تمتد لمساعدتها ، سوى يديها اللتين بدأتا تتضخمان بفعل مرض الإكروم أو الإكرومي ، ذلك المرض النادر الذي سلبها ملامحها ، فجعل وجهها وأطرافها تتصخمان ، وجعلها تبدو غريبة في أعين الناس ، بعيدة عن أي جمال اعتادوا رؤيته! ومع اشتداد الحاجة وضيق الحال وفرط العوز ، وجدت نفسها أمام خيار يمزق القلب ، خيار لم يكن بدافع الطموح ، بل بدافع اليأس. فما هو؟ ألا إن هذا الخيار: أن تشارك في مسابقة عنوانها: "أقبح امرأة في العالم". ولم يكن في الأمر مَجدٌ ولا فخر ، بل جرح ينزف داخلها كل يوم ، لكنها ابتلعته بصمت ، لأن هناك أربعة أفواه جائعة تنتظرها في المنزل! وبعد فوزها في المسابقة ، أصبحت تُعرض أمام الناس كأنها كائنٌ غريبٌ مشوه ، تجوبُ عُروض السيرك في (دريم لاند) وسيرك آخر في (رينجلينغ) ، وتتلقى نظرات الاشمئزاز ، وتسمع ضحكات السخرية ، ولكنها لم تنكسر. بل كانت تبتسم رغم الألم ، وتصمد رغم الإهانة ، وذلك لأنها لم تعد تعيش من أجل نفسها ، بل من أجل صغارها الذين لم يروا في ملامحها سوى أجمل امرأة في العالم. فهي أمهم على كل حال وأياً كان شكلها! وأي أم؟! إنها الأم المضحية المخلصة المتفانية! ولم تكن ماري آن بيفان وحشًا كما ظن البعض ، ولم تكن مجرد امرأة ذات مظهر غير مألوف ، بل كانت أمًّا عظيمة ، قدمت نفسها قربانًا على مذبح الحب والتضحية ، حتى لا يشعر أطفالها يومًا بالجوع أو العوز. وفي نهاية كل يوم ، بعد أن تنطفئ أضواء المسرح ، وتخفت أصوات الضحك ، كانت تجلس وحدها ، تحمل قلبها المثقل بالحزن ، وتتمنى فقط أن يدرك أحدهم أنها لم تكن تسعى إلا لأن تكون أمًّا جيدة ، حتى لو كان الثمن هو أن تصبح في أعين العالم أقبح امرأة! فمن أجل أمومة (ماري آن بيفان) كانت القصيدة لتطري تضحيتها الغالية!)
© 2025 - موقع الشعر