بين التاجر والصبي! - أحمد علي سليمان

بجُودكَ أنت الهُمامُ البَطلْ
ويُضرَبُ بالباذلين المَثلْ

وبالصِّدق تبلغ ما ترتجي
مِن الأمنيات بها تبتهل

نحَلت (السُّوَيداء) أبهى صَدىً
وصِيتاً على المَكرُمات اشتمل

وحُزت المَكارمَ في مَوقفٍ
تفرَّدت فيه بسَمْتٍ جَلل

وفقت الرجالَ بما جئته
وأنت الصبيُّ الذي لم يَزل

فمُنذ ثلاثين عاماً مَضتْ
حَللت (دمشق) حُلولَ الرجل

تريدُ شِرا الكعك مُستبشِراً
فقومُك عَدُّوهُ أشهى الأكُل

فجئت إلى السوق مُسترشداً
ولبَّى الذي اخترت راعي المَحل

وبعضُ جيوبك فتشتها
تريدُ الأداءَ لكي ترتحل

وليراتُك الخمسُ قد فارقتْ
بزعمك ، عُقبى الذي يَرتجل

فسُقت اعتذارَك مُستهجِناً
سُلوكاً على الحُرِّ لا يُحتمل

وألفيت نفسَك في مَأزق
وتاجرُك الشهمُ لم يَنفعل

وأجَّلَ أثمانَ ما باعهُ
وإنْ خالفَ البيعُ دَأبَ العمل

فيَمَّمت وجهَك مُسترجعاً
وآذى ضميرَك ما قد حصل

وفي إثرك الطفل نادى: انتظرْ
وجَدنا نقودَك ، لا تنذهل

ولا تبتئِسْ بالمُصاب انجلى
وبالدَّين يا عَفُّ لا تشتغِل

وبعد الرجوع بَدَتْ دَهشة
أصابك منها كثيرُ الخجل

فليراتُك الخمسُ في جيبها
وصَدَّك عنها الخطا والعَجل

فعُدت لتشكرَ مَعروفه
وأطريت تُوليه أحلى الجمل

وكنت بما قلته مُثنياً
عليه الهُمامَ الأصيلَ البطل

مناسبة القصيدة

(إنها قصة حقيقية حدثت في دمشق منذ ثلاثة عقود! يقول صاحبها: منذ ثلاثين عاماً وأنا ما زلتُ أتذكر حادثة حصلت لي ، وبكامل تفاصيلها! كان عمري 15 سنة ، ووقتها صدرت نتائج الشهادة الإعدادية في الجرائد الرسمية ، وشاهدتُ اسمي في الجريدة ، وكانت فرحتي عندها كبيرة جداً! فقررتُ السفر من السويداء الى دمشق ، وذلك لشراء كعكٍ شامي وبرازق وغرَيِّبة من دمشق لتقديمها لأهلي وأصحابي ابتهاجاً واحتفالاً بنجاحي. فوضعت في جيبي خمس ليراتٍ ورقيةٍ وليرة واحدة معدنية ، وركبت الباص ودفعت الليرة المعدنية أجرة الباص وبقيت الخمس ليرات الورقية بجيبي! وعندما وصلت إلى دمشق توجهت فوراً الى سوق الحميدية وأيضاً للصالحية ، وبعدها ذهبت إلى باب الجابية ، فدخلت محل حلويات وكان التاجر يجلس بجانب ابنه الصغير أمام محله ، فقلت له: عمي أنا أريد كيلو كعك وكيلو برازق وكمان كيلو غْرَيْبة! ومددتُ يدي إلى جيبي لأخرج الخمس ليرات الورقية ، فلم أعثر عليها ، وبدأت في البحث في الجيب اليمين ثم الجيب اليسار ولكنني لم أجدها! وهنا ظهر الحزن عليّ واضحاً ، فاعتذرت للتاجر وقلت له: عمي سأعود لاحقاً لأخذ ما طلبته منك! لكن التاجر نظر إليّ وابتسم وقال: هل نسيتَ النقود في البيت؟ فقلت له: لا بل أعتقدُ أنني أضعت المبلغَ ، فقد كان في جيبي خمس ليرات ورق! قال لي: أين تسكن يا بُني؟ قلت له: بيتنا في السويداء يا عمي! قال لي: اجلس يا بني واسترح بعض الوقت! وصَبّ لي (كاسة) شاي وقال: تفضل واشرب شايك ، ولا تشغل بالك ، فالمسألة بسيطة يا بني وليست تستحق كل هذا الاهتمام! وسألني: ما مناسبة شرائك لهذه الأشياء؟! فقلت: احتفالاً بنجاحي في المدرسة بتفوق! فبارك لي النجاح ، وعرض علي أن يجعل ما طلبته هدية نجاحي فأبَيت! فجمع التاجر ما وَزَنهُ من كعك وبرازق وغريبة في كيس ورق ، وقال لي: خذ هذا الكيس يا بني ، وفي المرة القادمة تسدد لي ثمن ما شتريت ، الناس لبعضها يا بني! فقلت له: يا سيدي أنا قد لا أعود لدمشق إلا بعد فترةٍ طويلةٍ وأنا أعتذر لأنني لا أحب الاستدانة! وثالثاً قد يركني الموت! فقال لي بثقة: أنا متأكدٌ يا بني أنك ستعود وتسدد لي ثمن البضاعة إن شاء الله تعالى ، فإن توفاك الله فتلك إرادتُه سبحانه وأسامحك في الدنيا والآخرة يا بني! وأصرَّ عليّ أن أحمل كيس البضاعة! فأخذت الحلويات وكلّي خجل من هذا الموقف المحرج ، وودعته هو وابنه وغادرت المحل ، وبعد أن مشيت مسافة بالسوق إذا بابن التاجر يناديني فتوقفت ، قال لي: لقد وجد والدي خمس ليراتك بأرض المحل ، ويبدو أنها قد وقعت منك ، وأبي كان قد خصمَ منها ثمن الحلويات ، وهذا هو الباقي تفضل! فكانت فرحتي كبيرة لأني لم أحمل ديناً في رقبتي من ناحية ، ولأنني سأستطيع دفع أجرة الباص للعودة الى السويداء دون الطلب من أحد ، لأنني لا أملك غيرها! وعندها فرحت كثيراً ، وشكرت الولد وأرسلت معه شكري لوالده ، ووضعتُ باقي المبلغ في جيبي وأنا سعيد جداً! وصلتُ إلى بيتنا في السويداء وعندما أدخلت يدي في الجيب الخلفي للبنطال الذي كنت ألبسه تفاجأت بأن الخمس ليرات في هذا الجيب الذي لم أبحث فيه ، فقصصت على والدي ما حدث لي في دمشق ، فابتسمَ وقال لي: يا بني تجار الشام وحلب هم تجار أباً عن جد ويحملون كل معاني الإنسانية والدين ، وعليك يا بنيّ أن تعيد الخمس ليرات للتاجر ، فهي دَينٌ في رقبتك وستأخذ معك خبز (مُلوّح) من خبز والدتك لتكون هدية له وأن وتدعوه لزيارتنا إن قبل واستطاع! وفعلاً في الأسبوع التالي حملت معي (خبز والدتي الملوّح) وخمس ليرات الدين! وعندما رآني التاجر من بعيد رأيت على وجهه ابتسامةً ، وعندما اقتربت منه قال لي: ألم أقل لكَ بأنك ستعود ، والآن خذ معك كيلو هريسة ، وسلّم لي على والدك وعلى أهل السويداء! فكتبت أحكي القصة شعراً أمتدح المروءة والتعامل الراقي المحترم!)
© 2025 - موقع الشعر