بين الأمير والعجوز! - أحمد علي سليمان

حَيَّرتني ، حتى نكِرتُ كِياني
وسَخِرتُ مِن نفسي ومِن أقراني

ورأيتُني في الناس دون مكانةٍ
ومضى زماني ، واسْتُبيحَ مكاني

ماذا وراءكَ مِن حقائقَ أخفيتْ
ووقائع غابتْ عن الأذهان؟

تُمسي وتُصبحُ في رضا وقناعةٍ
مُستعصماً بالواحد الديان

تُزري بكل عَويصةٍ بلغتْ مَدى
تذليلها ما كان في الحُسبان

وتحُلُّ مشكلة عَتَتْ
وزوالها ما كان بالإمكان

فتُحِيلها لا شيءَ كان بدعوةٍ
رُفعتْ لربِّ الناس باطمئنان

لم تُغوكَ الدنيا لتُصبحَ عبدَها
تحيا لها كبقية العُبدان

لم تُغرك الأهواءُ تصرعُ أهلها
ببريقها والزخرف الفتان

ما صَدَّكَ الأصحابُ عن درب الهُدى
مِن كلِّ مُنتفع وكلِّ جبان

ما رَدَّكَ الأهلون عمَّا ترتجي
مِن بَذلك المعروفِ دون تواني

في عقدكَ السبعين تستبقُ الخطا
وتصوغ قولاً بالغ الإتقان

ولقد تكونُ مُناظِراً مُتفطِناً
تُزجي الكلامَ بساطع البرهان

بمِنى رأيتُكَ فوق قاصية الرُّبا
تشكو إليَّ بنبرة الجَوعان

فسألتُ: هل لحماً طلبتَ مُجهزاً
في مطعم يأتي على العنوان

فأجبتَ: مِن رب الأنام طلبته
واللحمُ آتٍ رغم بُعد مكاني

فطلبتُ لحماً جيداً مِن مطعم
خدماتُه للوفد بالمَجان

ومنحتُه الرجلَ العجوزَ هدية
مُتطوِّعاً ، أرجو رضا الرحمن

والشيخ هللَ ، ثم كبَّرَ ضاحكاً
ولسانُه ما كف عن شكران

شَكرَ المليكَ على الطعام أتى له
مِن غير أتعاب ولا أثمان

وأصابَ منه ، وبعدُ أهدى مَن أتَوا
مِن سائر الحُجَّاج والضيفان

ودعا المليكَ لشايه متوسلاً
وأتاه كوبٌ ، ثم جاء الثاني

كوبٌ له وعليه من نعناعه
وأتى بثان مِثلِه أعطاني

ودعا يريدُ وسادة لتُريحه
إذ نام فوق جنادل الكُثبان

فأتى مَغاربة له بمخدةٍ
مِن بعد دعوته ببعض ثواني

ودعا يُؤمِّلُ نسمة تحنو على
جسم بساعر صَيفه الحَرَّان

فإذا النسيمُ يَعمُّنا بطراوةٍ
تُزري بأنسام على الشطآن

ودعا بمَركبةٍ تُبلغه إل
ى البيت العتيق بمَوكب الرُّكبان

فأتتْه مَركبة الحجيج تُغيثه
قد خصِّصَتْ في الحج للشِّيبان

فسألتُه: مَن أنت؟ قل لي صادقاً
فأجاب: إني عبدُ ذي السُّبحان

فسألتُه: أتُراكَ بعدُ عرفتني
وعرفت شيخاً بات مِن خلاني؟

فأجاب: كلٌ منكما مهما علا
عبدٌ لربي الخالق الرحمن

فرجوتُه أن يدعو الرحمن لي
فإذا بنصح فاضَ بالرجحان

يا صاحبي ، ادعُ المهيمنَ طامعاً
واللهُ ذو كرم وذو غفران

ارفقْ بنفسك ، وانتبهْ لنجاتها
حتى تفوز بجنة الرضوان

إني وعظتُك ، فاستجبْ لمَواعظي
واعمدْ إلى الإيمان والإحسان

فلربما أتتِ المَنيَّة بَغتة
فاحذرْ دُروبَ الغي والخسران

ولنفسك ادعُ ، ولا تكنْ مُستيئساً
مَن ذا علمت حيا بلا عِصيان؟

بالله ظنُّ الخيرَ ، وانشُدْ عَفوَهُ
وألحَّ في الدعوات باسْتيقان

مناسبة القصيدة

(يقول أحد الأمراء المسؤولين في السعودية: خرجت للحج منذ سنوات ، مثل الأعوام السابقة ، فأنا أحب الحج كفريضة ، وأحبها أيضاً كرحلةٍ إيمانيةٍ! لكن في هذا الحج ، حدث شيءٌ مختلفٌ حقاً ، وهذا الشيء زلزل كل مفاهيمي عن الحياة والأحياء! حيث إنني كنت في ليلة التروية في مخيم منى ، وطبعاً المخيم الخاص بي من أفخم المخيمات ، إن لم يكن بالفعل هو أفخمها! لكني سبحان الله! شعرت بضيقة نفس وخنقة ، وأحسست إني أحتاج للمشي وحدي! خرجت بدون حراسة ، ومعي فقط هاتفي ، وبينما كنت أسير على غير هدى ولا دليل نحو الجبال ، وهناك في الظلام على صخرةٍ بعيدة ، وجدت رجلاً عجوزاً تقريبا في السبعين أو أكثر ، يجلس وحيداً! وحين رآني ، قال لي: هل أنت الذي جئت لي باللحم؟! فذُهلت من كلامه ، وقلت له: وهل أنت تنتظر أحداً يوصل لك لحماً؟ وهل أنت طلبت لحماً من مطعم مثلاً؟! فقال لي بكل ثقة: بل طلبتها من الله سبحانه وتعالى ، رب كل أصحاب المطاعم ، فأنا لم آكل أي شيء منذ العصر ، ولقد طلبت من الله اللحم ، وأنتظر من يأتيني به! فضحكت رغماً عني من هذا العجوز الجائع ، الذي ينتظر اللحم في عز الليل في منطقةٍ مقطوعة ، وقلت في نفسي: والله لأحضرن له طلبه! وكلفت بهذا أحد المسؤولين في مخيمي ، وأرسلت له (اللوكيشن) ، فطلبت منه طبقاً كبيراً فيه أجود أنواع اللحم! وفعلاً أتي لي أحد العمال به ، فوضعت السلة أمام العجوز! فهلل وكبّر وسمى الله تعالى ، وأكل بنهم شديد ، يبدو أنه كان جائعاً جداً! وبعد أن انتهى ، قال: يا رب رزقتني باللحم ، وكان حلواً وشهياً فعلاً ، والآن يا رباه أريد أن أشرب كوب شاي ، وفيه نعناع ، فأنا أحب الشاي بالنعناع يا رب! وأنا أتعجب من دعائه ، هل ينتظر شاي، وبالنعناع في تلك البقعة المقطوعة؟! المهم أنه نظر إلي وقال لي: أتريد بقية الأكل؟ فقلت: لا ، شكراً! فجمع بقية الطعام ، وأعطاه لأول جماعةٍ تمر من أمامنا ، أعتقد أنهم من أهل الشام ، وقال لهم: هذا زرق من الله لكم! فشكره الناس ومضوا لحال سبيلهم! وبعد لحظات ، عاد أحدهم وفي يده كوب شاي ، وقال له: يا شيخ هذا لك ، وأرجو أنك تقبله منا ، كما قبلنا منك اللحم! فقال الحاج العجوز: وهل في الشاي نعناع؟! فقال له الرجل: لا! ولكن معنا نعناع! امنحني ثواني لأحضر لك النعناع! فقال لهم الرجل العجوز: هل بإمكانكم أن تحضروا كوباً ثانياً من الشاي للرجل الذي يجلس بجواري هذا؟! فلقد أرسله الله تعالى لي باللحم! كل هذا يحدث أمامي وأنا والله العظيم مذهول من سلوك العجوز هذا ، ومن شدة ذهولي لم أنطق أو أعترض ، أخذت كوب الشاي وشربته معه ، وأقسم بالله العظيم! لم أذق في حلاوة هذا الشاي من قبل! وبعد أن شرب الشاي في صمت وهدوء وسكينة ، حمد الله ، وطلب من الله مخدة لينام عليها ، فقال: يا رب ارزقني بمخدة ، فأنت تعلم أني مش بعرف أنني لا أنام على الصخر من غير مخدة! أقسم بالله العظيم ، أتي مجموعة من الحجاج من دولة المغرب ، عرفتهم من لهجتهم ، وجلسوا بجانبنا ، وفرشوا سجادة كبيرة ووضعوا وسائدهم بجانبنا ، فاستأذنهم في واحدة منها ، فأخذها ونام ، وسمعته يقول يناجي ربه: يا رب! الجو حار حتى بالليل! أرسل لنا نسمة هواء من عندك تلطف هذا الجو ، لكي أنام! أقسم بالله العظيم ، هبت نسمة هواء بالفعل! وهنا قلت وعيناي تدمعان: الله أكبر الله أكبر! من أنت يا شيخ؟! فقال لي: عبد من عبيد الله تعالى ، دعني أنام ، فإن وراءنا غداً يوماً طويلاً! دعني أنام وإلا دعوتُ عليك! والله العظيم خفت حرفياً ، وخرجتُ أجري! ولم أقف إلا في المخيم! وهناك قابلت الشيخ الواعظ الذي كان معنا في المخيم ، وحكيت له على ما حدث! فقال لي: والله إني لأحب أن ألتقي بهذا الرجل الذي يدعي بأي شيء ، فيستجاب له في الحال! فذهبت أنا وهو على (اللوكيشن) الذى أرسلته ، وهو واحد من أشهر مشايخ السعودية ، وهو حي يُرزق ، وشاهد على ما أقول! فإذا بنا نجد الرجل قد قام من نومه ، وسيتحرك ، فقلت له: إلى أين أيها الحاج؟ فقال لي: الفجر أوشك أن يبزغ! فقط أبحث عن مكان لأتوضأ فيه لأستعد لصلاة الفجر! فقلت له: يا حاج! هل تعرف من أنا؟ ومن هذا الشيخ الذي معي؟! فقال لي: طبعاً أعرفكما جيداً! أنتما من عبيد الله تعالى مثلي! فعرفته بنفسي وبالشيخ المشهور المعروف ، فلم يبد أدنى اهتمام! بل كرر كلامه قائلاً: تماماً كما قلت أنما من عبيد الله تعالى مثلي! فعرضت عليه أن يكمل الحج معنا ، فرفض بشدةٍ وقال: أفضِّل أن أحج علي طريقتي! فأعطيته كارتاً فيه رقم تليفوني الشخصي ، حتى إذا احتاج أي حاجة في أي وقت ، يتصل بي! فقال لي بصوت كله إيمان: وأكلمك لماذا وأطلب منك لماذا؟ أنسيت أنك عبد فقير مثلك مثلي! عندما أحتاج إلى شيء أطلب منه سبحانه وتعالى وحده! فقلت له: ممكن تدعو الله لي يا حاج؟ فقال لي بلهجة الواثقين: ولماذا لا تدعو لنفسك؟ ألم يهبك الله لساناً كما وهبني؟! فقلت له: لكن دعاؤك
© 2025 - موقع الشعر