أنا المظلوم!

لـ أحمد علي سليمان، ، في الرثاء، 6

أنا المظلوم! - أحمد علي سليمان

أنا المظلومُ تفضحُني دموعي
فيمسَحُها إذا انهمرتْ خشوعي

ويُحْنِي الظلمُ هامَة مُستغيثٍ
- برب الناس - مِن ظلم فظيع

وتقهرُني الهواجسُ رغم صَبري
على البلواء والجَور المُريع

أنا المظلومُ ، والأخُ لم يَصُني
مِن الآلام تُوغِلُ في ضُلوعي

رأى في الإرث غنماً مُستساغاً
ولم يكُ في العدالة بالقنوع

وقال الناسُ: في التقسيم فاعدلْ
وفي التخيير لا تكُ بالمَنوع

وكم من جِلسةٍ عُقِدتْ وتاقتْ
إلى تبريكة الطرف المُطِيع

وكم طرحَ الحلولَ رُعاة ودٍ
فلاموا إذ سخِرت من الجميع

وخالك في المشاكل خيرُ قاض
وفي الإنصاف ذو قدر رفيع

له في كل توفيق نصيبٌ
ولا يصبو إلى كسْب وريع

ويُنصِفُ ، ليس يظلمُ قيدَ شِبر
وإنْ يَشْفعْ فمرحى بالشفيع

رحيمٌ بالعقائل واليتامى
ويَغضبُ للمُضَيَّع والرضيع

وفي الفتيا له باعٌ وشأنٌ
سواءً في الشراكة والبيوع

وفي الميراث ليس له نظيرٌ
سواءً في الأصول أو الفروع

وجُل الناس أوْلوه احتراماً
وكالوا المدحَ للرجل النفوع

وخصَّك بالنصائح لا تُبارَى
وأمَّلَ فيك مَيلاً للرجوع

ولكنَّ العِنادَ نأى بغِر
عن التوفيق يُودي بالصدوع

وأذعن خاطري ، ورضيتُ طوعاً
وذِعتُ قناعتي ، وبدا خضوعي

لِمَا أملاه مِن حَل جميل
لننعم فيه بالعيش الوديع

وقال: لخاطري اصطلِحا وتوبا
عن السفساف والنزق الوضيع

فآثرتَ المحاكمَ والقضايا
وهَدْرَ المال في أشقى الربوع

ومات الخالُ ، والنسماتُ موتى
ويبقى وجهُ مولانا السميع

وما خِلتُ البلية تصطفيني
لأغسلَ جسمَ خالي بالدموع

وأنزلَ قبره لأحط جسماً
وأوصيْ القبرَ رفقاً بالضجيع

سيَخبعُ فيك عن رغم وحيداً
فما أغنى البقاءُ عن الخبوع

ووجه الخال مؤتلقٌ منيرٌ
فسُرَّ القلبُ بالوجه النصيع

يمينَ الله بُشرى وابتشارٌ
كمثل الشمس تسعدُ بالسطوع

أبعد العز تدحرُنا المنايا؟
لَعاً للمال والبيت الوسيع

أبعد السيط والألقاب نفنى؟
وأين مضتْ أماديحُ الجُموع؟

أيبخعُ نفسَه عبدٌ لدنيا؟
ألا تعساً لداعية البُخوع

أخَيَّ الأرض خذها ، واعفُ عني
فما أنا بالمُحِب ولا الصريع

وحَلُّ الخال دونك فالتزمْه
فأنت رضيته بدء الربيع

ولكني أبيتُ ، ففيه ظلمي
وباء الحَلُّ بالفشل الذريع

وأرضَى اليوم حباً واحتساباً
وأدعو في السجود وفي الركوع

بأن يَجتث فرقتنا التراضي
فإن تراجعي يَغشى نزوعي

أخوتنا يُهددها التلاحي
وفي ظلماته ضاءتْ شموعي

بدون الإرث ما انتكستْ حياتي
وما عانيتُ مِن ضِيق وجُوع

علامَ إذنْ تُسربلنا الرزايا
ونُمعِنُ في تقهقرنا الشنيع؟

نبيعُ ونشتري ، فيكون ربحٌ
يُرَى فيما اشترينا والمَبيع

وتذهبُ عُروة ، وتئِنُّ أخرى
وتنتحرُ الخِلالُ على الشيوع

وعائلة تُضيعُ حقوقَ أخرى
وهذا الجُرمُ منتشرُ الذيوع

فعائلة لها أشهى طعام
وعائلة تُغذى بالضريع

وقومٌ يأكلون لحوم ضأن
وأقوامٌ قلوْا طعمَ الرجيع

كرهتُ القطعَ للأرحام يُخزي
وبعد الشرك ذا أخزى صَنيع

ومَن يقطعْ يقعْ في شر سُوآى
وأحقِرْ بالمُسيء وبالوقوع

لنا دِينٌ يُجَمِّلنا وشرعٌ
بدونهما سنحيا كالقطيع

مناسبة القصيدة

(شقيقان أمرُهما عجيب ، وشأنهما غريب. ولولا أن راوي قصتهما ثقة تقوم به الحجة عندي لما صدقتُ هذه القصة. إذ هي أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع. أما الراوي فهو أبو إسحق الحويني ، حبيبُ أهل السنة وعدو أهل البدعة تاجُ رؤوسنا ودُرة علمائنا وبَقية سلفنا ولا نزكي على الله ربنا أحداً. حفظه الله وشفاه ورعاه ونفع به أحبابه ودحر به أعداءه إن لم يهتدوا ويتبعوا الحق الذي معه. وأما الشقيقان فرجلان ورثا أرضاً بالملايين في أرقى أحياء القاهرة. ودارت رحى الخلاف على هذا الإرث ، وتطورت الأمور ووصلت إلى المحاكم ، وطال أمدها واستنفدت فيها طاقات لا حدود لها. وامتدت عقدين من الجلسات والأحكام والاستئنافات والمحاورات والمرافعات والمناورات. دون التوصل إلى حل. وكان لهما خالٌ حكيمٌ ميسورٌ محترم ، والرجل كان إضافة إلى ذلك محط أنظار الجميع من أهل وجيرة وأباعد وأقارب. ونستطيع أن ننصبه قاضياً عُرفياً بين أهل قريته والقرى المجاورة. فكان حلال المشاكل ومعوِّض المتضررين ، وله مال كثيرٌ نذر بعضه للتعويضات والديات ، فبارك ماله الله تعالى وتكاثر عنده تكاثر الدود. فأحبه الناس حباً جماً. وتدخل لفض النزاع بين ابني أخته (موضوع قصيدتنا) ، وقدم حلولاً متعددة ، ولكن لحكمةٍ من الله تعالى لم يتم الصلح بينهما ولا إنهاء موضوع الإرث. حيث كان كل حل يطرحه يحظى برضا طرفٍ متسامح يقبل رغم تميز مقصودٍ للآخر عنه ، ولكن الثاني يُصِر مستكبراً على إفشال الحل وإحياء القطيعة وتسعير نار الحرب وتوسيع هوة الخلاف. وبعد حين وافتِ المنية خالهم. وكان قبل ليال من وفاته قد اقترح حلاً أصر بشدة على إرغام الطرفين على قبوله ، والله أعلم لإحساسه بقرب النهاية. ولكن كالعادة يقبل المتسامح ويأبى العنيد. وحالتْ ساعة الدفن ، فاختار الناس واحداً من أقاربه لينزل قبره وليكن (ابن أخته المتسامح) ليواريه الثرى. وقبل أن يُهيل التراب على جثمان خاله ، كشف وجهه بزاويةٍ لا تكاد تُظهر الوجه إلا له وحده. فرأى الأنوار والابتسامات والبياض والسماحة والوداعة فوق العادة بكثير ، فانهمرت دموعه وخارت قواه ، وأدرك أن مثل هذه الأشياء يمكن أن تكون قرائن لحسن الختام والله أعلم. فخرج وهو يُردد لأخيه:- يا أخي خذ الإرث كله وأبق على ما بيننا من أخوة. وأشهد الناس على تنازله عن إرثه لأخيه لإحلال السلام والوصل وإخماد النار وإطفاء الحرب. مُصِراً على كونه (مظلوماً) ، ولكنه رضي بالانكسار لأخيه. فلما قال ذلك عانقه أخوه ، وأخذا عزاء خالهما ، واتفقا على إنفاذ آخر حل ارتآه الخال بينهما وفاءً له واحتراماً لرأيه. وكانت فرحة العائلة بهما تضاهىء الحزنَ على الخال الفقيدّ. فلما أعجبتْني القصة كتبت قصيدتي: (أنا المظلوم). إن الأخوة أغلى من أي مال أو عقار. فالأخوة تبقى والمال يفنى. والأخوة لا بد لها من تضحية حتى تؤتي ثمارها.)
© 2025 - موقع الشعر