صدقت يا إيرما بومبيك! - أحمد علي سليمان

قرأتُ كلامَكِ يا حانية
بنفس لِمَا قلتِهِ واعية

عن الأب كانت حروفٌ سَمَتْ
وجَلّتْ عن الخوض واللاغِية

خواطرُ مثلُ القريض بدتْ
ويَنقصُها الوزنُ والقافية

أيا ابنة (بُومبيكَ) حُزتِ الرضا
بأقوال مِقدامةٍ واعية

وصَفتِ الأبوة إمَّا استمتْ
عن الهزل والخيبة الغافية

فكان الأبُ الشمسَ إنْ أشرقتْ
وضاءتْ سماءَ الدُّنا الصافية

وكان الأبُ الخيرَ إمَّا رَبا
فزالتْ به المِحنة الجاسية

وكان الأبُ الليثَ مُستبسلاً
ليَحميَ أسْرته الغالية

وكان الأبُ العِلمَ مُستيقِناً
يُناولُ أفكارَه الهادية

وكان الأبُ السِّلمَ إنْ أضرمتْ
على مَن رَعى الفِتنة الحامية

وكان الأبُ العطفَ إمَّا قسَتْ
ظروفٌ على مَن رَعى عاتية

وكان الحنانَ ، وكان الصَّفا
وإنْ يك ذا غضبة ضارية

وكان الوداعة في أوجها
وإنْ يكُ ذا همةٍ عالية

يَغارُ على بنته غيرة
تُجَنبُها الهُزءَ والداهية

ويَحنو عليها ، ويَرقى بها
لكي لا تُعامَلَ كالماشية

ويَصبغ بالشرْع أخلاقها
فتُصبحُ في قومها داعية

ويُهدي البشارة إنْ أحسنتْ
لترقى بأخلاقها الزاكية

ويُنذِرُ إنْ كان منها الخَطا
ليُنقِذها مِن لظى الهاوية

به البيتُ قام ، ولم يَرتكسْ
وناولَ أسْرته العافية

فإما اهتدى فالحياة زهَتْ
ودَفتْ بأفراحها النادية

وإنْ ضلَّ فالعيشُ مُستنقعٌ
وأنى له النهضة السامية؟

مناسبة القصيدة

(الأب عمود البيت وقوام الأسرة وذِروة سنام العائلة. كتبت الكاتبة والصحفية الأمريكية الراحلة "إيرما بومبيك" - معبرة عن دور أبيها في أسرتها وكيف رباها على العطف والحنان واحترام الآخرين من حولها ، بقطع النظر عن العقيدة - تقول: (لم يكن أبي يفعل شيئاً مستحيلاً أو خارقاً ، فلماذا افتقدته إلى هذا الحدّ الرهيب الذي لا يتوقف معه دمع ولا يُفيق من غفوته انتباه؟ عندما كنت صغيرة بدا لي أن الأب مثل مصباح الثلاجة. ففي كل بيتٍ مصباح في الثلاجة لكن لا أحد يعرف تماماً ماذا يفعل حين ينغلق باب الثلاجة. ربما يعرف ذلك من الناس فنيو الثلاجات. ومبلغ علمي أن المصباح يطفأ عندما تُغلق الثلاجة. لقد كان أبي يغادر البيت والأسرة وأنا كل صباح ، وكان يبدو سعيداً "برؤيتنا ثانية" ، حين يعود مساءً. كان يفتح سدادة قارورة المخللات على المائدة ، حين يعجز الجميع عن فتحها. وكان الإنسان الوحيد في البيت الذي لا يخشى النزول بمفرده إلى القبو وبه من الأشياء القديمة العتيقة ما به ، وبه من الحشرات وربما القوارض ما به. وكان يجرح وجهه وهو يحلق ذقنه ، لكن أحداً لم يتقدّم ليقبله أو يهتم بما حصل له وقد سالت الدماء من وجهه. وحين يمرض أحدنا نحن الأولاد أولاده كان هو من يذهب إلى الصيدلية لإحضار الدواء. وكان دائماً مشغولاً ، وكان يقطع أغصان الورد في الممر لباب المنزل ليومين ، ویُعاني من وخزات الأشواك ، ونحن نسير للباب الأمامي للمنزل. وهو الذي كان (يُزيِّت) عجلات مزلاجي (آلة التزلج) كي تجري على نحو أسرع. وحين حصلت على دراجتي الهوائية كان هو الذي يركض إلى جانبي ، وربما قطع مائة كيلومتر على الأقل قبل أن أسيطر عليها وحدي وأتعلم القيادة. وهو الذي كان يوقع بيانات علاماتي المدرسية ، مشجعاً تارة وموبخاً تارة أخرى دون ضرب أو تعنيف. وقد أخذ لي صوراً لا تُحصى من دون أن يظهر في واحدةٍ منها. وهو الذي كان يشد لأمي حبال الغسيل المرتخية ، ويصلح موصلات الكهرباء وصنابير الماء وأرجل الكنبات. وكنت أخاف من آباء كل الأولاد من حولي على وجه العموم ، وأخاف أكثر من الآباء الآخرين في عائلتي الممتدة على وجه الخصوص ، إلا أبي لا أخاف منه. وكنت قد أعددتُ له الشاي ذات مرة ، وكان عبارة عن ماء فيه سكر دون شاي ، ومع ذلك جلس في المقعد الصغير ، وأخبرني أنه كان لذيذاً ، وأضاف مشجعاً: هذا أحلى شاي شربته في حياتي. وبدا مرتاحاً جداً عندما كنت ألهو بلعبة البيت. وكنت أعطي الدمية الأم مهماتٍ كثيرة ، ولم أكن أعرف ماذا أوكل من الأعمال للدمية الأب ، لذلك كنت أجعله يقول: إنني ذاهب للعمل الآن ، ثم أقذف به تحت السرير. وذات صباح ، عندما كنت في التاسعة من عمري لم ينهض أبي ليذهب الى العمل ، بل ذهب إلى المستشفى متوجعاً متألماً من ألم في قلبه ، ووافته المنية في اليوم التالي. وبعدها ذهبتُ إلى حجرتي وحيدة ، وتلمست تحت السرير بحثاً عن الدمية الأب ، وحين وجدته نفضتُ عنه الغبار ، ووضعتُه على الفراش. لم أكن أتصور أن ذهابه سيؤلمني إلى هذا الحد ، لكن ذهابه لا يزال يؤلمني جداً حتى الآن وأفتقده. وأعتقد أنني سأظل أفتقده وأتألم لفراقه وأتوجع لفراقه إلى أن ألحق به).هـ. صدقت يا إيرما بومبيك ، ولو كان أبوك مسلماً لترحمنا عليه ولكنه بلا شك أب من طراز فريد. لقد جسد الأبوة الحانية بكل ما تعنيه الكلمة من معان. وأشكر لك يا إيرما إحساسك المرهف وحسك العالي وقدرتك على تصوير مشاعرك بدقة ولين ولطافة في سن مبكرة.)
© 2025 - موقع الشعر