(إنها لقصة عجيبة وغريبة! يقول صاحبها: لم أكن قد تجاوزت الثلاثين حين أنجبتْ زوجتي أول أبنائي! ما زلت أذكر تلك الليلة ، بقيت إلى آخر الليل مع الأصدقاء في إحدى الاستراحات! كانت سهرة مليئة بالكلام الفارغ. بل بالغيبة والنميمة والتعليقات المحرمة ، كنت أنا الذي أتولى في الغالب إضحاكهم. أذكر ليلتها أنني أضحكتهم كثيراً! وكنت أمتلك موهبة عجيبة في التقليد! فبإمكاني تغيير نبرة صوتي حتى تصبح قريبة من الشخص الذي أسخر منه! أجل! كنت أسخر من هذا وذاك. لم يسلم أحد مني حتى أصحابي! وقرر بعض الناس أن يتجنبوني كي يسلموا من لساني! أذكر أني تلك الليلة سخرت من أعمى رأيته يتسول في السوق. والأدهى أني وضعت قدمي أمامه ، فتعثر وسقط يتلفت برأسه ، لا يدري ما يقول. وانطلقت ضحكتي تدوي في السوق! وعدت إلى بيتي متأخراً كالعادة ، فوجدت زوجتي في انتظاري. كانت في حالة يرثى لها! قالت بصوت متهدج: أين كنت؟ قلت ساخراً: في المريخ. كنت عند أصحابي بالطبع! كان الإعياء ظاهراً عليها. قالت والعبرة ټخنقها: أنا تعبة جداً. يبدو أن موعد ولادتي صار وشيكاً! وسقطت دمعة صامته على خدها. أحسستُ أني أهملت زوجتي ، فلقد كان المفروض أن أهتم بها وأقلل من سهراتي. خاصة أنها في شهرها التاسع! حملتها إلى المستشفى بسرعة ودخلتْ غرفة الولادة. جعلت تقاسي الآلام ساعاتٍ طوالاً! وكنت أنتظر ولادتها بفارغ الصبر. تعسرت ولادتها. فانتظرت طويلاً حتى تعبت. فذهبت إلى البيت وتركت رقم هاتفي عندهم ليبشروني! وبعد ساعة اتصلوا بي ليزفوا لي نبأ قدوم ابني (سالم)! ذهبت إلى المستشفى فوراً! وعندما رأوني أسأل عن غرفتها ، طلبوا مني مراجعة الطبيبة التي أشرفت على ولادتها! فصړخت فيهم أية طبيبة! المهم أن أرى ابني سالماً! قالوا: أولاً راجع الطبيبة! فدخلت على الطبيبة ، وكلمتني عن المصائب والرضى بالأقدار ، ثم قالت: ولدك به تشوهٌ شديٌد في عينه! ويبدو أنه فاقد البصر ، فخفضت رأسي وأنا أدافع عَبراتي ، وتذكرت ذاك المتسول الأعمى الذي دفعته في السوق ، وأضحكت عليه الناس! سبحان الله كما تدين تدان! بقيت واجماً قليلاً. لا أدري ماذا أقول. ثم تذكرت زوجتي وولدي! فشكرت الطبيبة على لطفها. ومضيت لأرى زوجتي! لم تحزن زوجتي. كانت مؤمنة بقضاء الله ، طالما نصحتني أن أكف عن الاستهزاء بالناس! كانت تردد دائماً: لا تغتب الناس! خرجنا من المستشفى. وخرج سالم معنا! في الحقيقة لم أكن أهتم به كثيراً! اعتبرته غير موجود في المنزل ، وحين يشتد بكاؤه أهرب إلى الصالة لأنام فيها! أما أنا فلم أكن أكرهه. لكني لم أستطع أن أحبه! كبر سالم وبدأ يحبو. كانت حبوته غريبة! قارب عمره السنة فبدأ يحاول المشي ، فاكتشفنا أنه أعرج! أصبح ثقيلاً على نفسي أكثر! أنجبت زوجتي بعده عمر وخالداً! مرت السنوات وكبر سالم وكبر أخواه! وكنت لا أحب الجلوس في البيت ، بل دائماً مع أصحابي! لم تيأس زوجتي من إصلاحي! كانت تدعو لي دائما بالهداية. لم تغضب من تصرفاتي الطائشة! لكنها كانت تحزن كثيراً إذا رأت إهمالي لسالم واهتمامي بباقي إخوته! كبر سالم وكبر معه همي! لم أمانع حين طلبت زوجتي تسجيله في إحدى المدارس الخاصة بالمعاقين! لم أكن أحس بمرور السنوات. فأيامي سواء. عمل ونوم وطعام وسهر! وفي أحد أيام الجمع ، استيقظت الساعة الحادية عشر ظهراً! ما يزال الوقت مبكراً بالنسبة لي. كنت مدعواً إلى وليمة! لبست وتعطرت وهممت بالخروج! مررت بصالة المنزل. استوقفني منظر سالم كان يبكي بحرقة! إنها المرة الأولى التي أنتبه فيها إلى سالم يبكي مذ كان طفلاً. عشر سنوات مضت لم ألتفت إليه ، حاولت أن أتجاهله هذه المرة! فلم أحتمل ، كنت أسمع صوته ينادي أمه وأنا في الغرفة! التفت إليه وقلت: سالم! لماذا تبكي يا بني؟! وحين سمع صوتي توقف عن البكاء. وكأنه يقول: الآن أحسست بي! أين أنت منذ عشر سنوات؟ فتبعته ، وكان قد دخل غرفته! رفض أن يخبرني في البداية عن سبب بكائه وحاولت التلطف معه ، ومسحت دموعه بيدي! وبدأ سالم يبين سبب بكائه. وأنا أستمع إليه وأنتفض. ما السبب؟! تأخر عليه أخوه عمر الذي اعتاد أن يوصله إلى المسجد ، ولأنها صلاة جمعة خاف أن لا يجد مكاناً في الصف الأول! نادى عمر ونادى والدته ، ولكن لا مجيب. فبكى ، أخذت أنظر إلى الدموع تتسرب من عينيه المكفوفتين! لم أستطع أن أتحمل بقية كلامه ، ونسيت أصحابي ، ونسيت الوليمة ، وقلت: سالم لا تحزن ، هل تعلم من سيذهب بك اليوم إلى المسجد الآن؟! قال: أكيد عمر ، لكنه يتأخر دائماً! قلت: لا ، بل أنا الذي سأذهب بك! دهش سالم لم يصدق ظن أني أسخر منه. واستعبر ثم بكى! مسحت دموعه بيدي. وأمسكت بيده! أردت أن أوصله بالسيارة. رفض قائلاً: المسجد قريب ، أريد أن أخطو إلى المسجد ، إي والله قال لي ذلك! لا أذكر متى كانت آخر مرة دخلت فيها المسجد لكنها المرة الأولى التي أشعر فيها بالخوف والندم على ما فرطته طوال السنوات الماضية!
إضافة تعليق - (( user.name )) - خروج
ادارة موقع الشعر (( comment.message.user.name )) (( comment.message.user.name ))
(( comment.message.text ))
لا يوجد تعليقات.